وينتقل بنا الكاتب إلى (المقاصد التفصيلية)، وكيف استطاع ابن باديس بعلمه الراسخ، وطرائقة في دراسة الأصول، وتمكنه من فهم مقاصد الشريعة العامة، بوساطة بصيرته النافذة التي جعلته يصل بمباحثه إلى تفاصيل مقاصد الشريعة وأحكامها الجزئية، على مستوى العبادات والمعاملات، وبعدها يقفنا الدكتور فلوسي على: (الترجيح بين المقاصد في حال تعارضها) ويستعرض موقف ابن باديس: (أن نجعل المصلحة العامة غايتنا والمقدمة عندنا، حتى لا يكون ـ إن شاء الله ـ في مصالحنا الخاصة ما يصرفنا أو يشغلنا عنها، راجين من الله تعالى أن يعيننا على ما قصدنا، وأن يوفقنا إلى استعمال كل مصلحة خاصة لنا في مصلحة عامة لنا ولإخواننا.) . أ . هـ . (ص : 84 ـ 85).
وعلق الأستاذ المؤلف على فهم ابن باديس، وكيفية استجلائه الدقيق للمقاصد الشرعية عند التعارض بين مصلحتين بقوله: (إن هذه النظريات الدقيقة التي يقدمها ابن باديس في باب فقه المقاصد الشرعية، لهي ـ في الواقع ـ نظرات فذة ونادرة، لا نكاد نقف على مثيلاتها إلا عند أفذاذ قليلين من العلماء. وهي تشكل إضافات ذات أهمية بالغة في ميدان البحث المقاصدي الذي لا يزال إلى اليوم متعثر الخطى متثاقل الحركة. وهي إضافات ينبغي استثمارها في البحوث المقاصدية، والإستمرار في البحث في تراث ابن باديس من أجل اكتشاف نظرات أخرى لا تزال بعيدة عن تناول الدارسين والباحثين.
(ترى ما مدى تأثير هذا الفقه المقاصدي عند ابن باديس في عمله العلمي والثقافي والاجتماعي في واقع المجتمع الجزائري؟ وهل كان له دور في نجاح العمل الإصلاحي الذي قام به رحمه الله؟) . أ . هـ . (ص : 85).
وعن: (أهداف التغيير عند ابن باديس ومدى توافقها مع مقاصد الشريعة) يحدثنا المؤلف عن تصدي ابن باديس، ومواجهته لأكبر المشكلات السياسية ـ على الإطلاق ـ إذا ما أقدم على تغيير الواقع الذي وضعه وكرسه الغاصب المحتل. ومدلول معنى التغيير في ذلك الزمن الآفل معناه التصادم مع جور الإستدمار، والمواجهة السافرة مع إدارة الإحتلال الظالمة، وفتح باب لمجابهة نظام كولونيالي لا يعرف إلا القمع والبطش والموت.
وكان ابن باديس يرى أن من واجبه الشرعي والوطني المعالنة بمشروعه التغييري الذي فَكَّرَ فيه طويلا بتأمل وروية، وقَلَّبَهُ على شتى الوجوه، ثم عزم على المسارعة بتنفيذه ـ على ما فيه من مخاطر ـ من أجل التمكين لنهضة أمة والتمهيد لتحرير وطن ، يقول الأستاذ المؤلف: (فمن أول خطوة اختار ابن باديس الطريق الموافق لمقتضى مقاصد الشارع، فراعى حماية أم المقاصد الشرعية وأعلى كلياتها، ألا وهو حفظ الدين ، قبل أن يفكر في تحقيق أي غاية أخرى، فلم يخض في السياسة من أول وهلة لأنه رأى أنها ليست الطريق الموصل إلى تحقيق ما ينبغي من نتائج، لذلك يقول رحمه الله في تعليل اختياره للمنهج الديني في الإصلاح: ]..إننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة، وتمسكًا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد، وبث الخير والثبات على وجه واحد والسير في خط مستقيم. وما كنا لنجد هذا كله إلا فيما تفرغنا له، من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة وأنفعها للإنسانية عامة.[) . أ . هـ . (ص ؛ ص : 88 ـ 89).
وبالنسبة لـ: (أسس منهج التغيير عند ابن باديس وعلاقتها بفقه المقاصد)، يقول المؤلف الأستاذ الدكتور مسعود فلوسي: (إننا حين ندرس منهج التغيير عند ابن باديس دراسة فاحصة متعمقة، سندرك لا محالة أن الرجل لَمْ يكن يصدر في عمله عن عاطفة جارفة ولا عن تصور مغشوش للواقع والأحداث، كما لم يجر فيما جرى عليه من أعمال وأقوال على عفوية غير محسوبة، وإنما كان يجري على دراسة فاحصة وتامل مسبق للوسائل والنتائج التي يمكن أن تتمخض عن أي حركة قد تصدر عنه أو عن جمعيته، وذلك في الحقيقة صميم النهج المقاصدي الذي يراعي تحقيق الغايات المطلوبة بواسطة الوسائل الأقدر على التحقيق، بأكبر قدر ممكن من إمكانيات النجاح، وبأقل قدر ممكن من إمكانيات الفشل.) . أ . هـ . (ص: 98).
ثم حلّل الأستاذ المؤلف التزامات رائد النهضة في التغيير، فتحدث بتفصيل ممتع عن: (التزام منهج الأنبياء في التغيير)، (ص ؛ ص : 99 ـ 101) ؛ و(التزامات الكتاب والسنة في الوسائل)، (ص ؛ ص : 101 ـ 103)،
و(مراعاة الموازنة بين الأولويات) (ص ؛ ص : 103 ـ 107) ، و(التزام المشاورة والعمل المنظم)، (ص ؛ ص : 107 ـ 109).
ويختم الفصل الثاني بـ : (دور النظر المقاصدي في النتائج التي حققها العمل التغييري لابن باديس)، (ص ؛ ص : 111 ـ 114).
وجاء الفصل الثالث بعنوان: (الوحدة الوطنية الجزائرية في فكر الإمام عبد الحميد بن باديس وجهوده في المحافظة عليها)، في بداية الفصل مَهَّدَ صاحب التأليف بتوطئة جعل منها مدخلا لشرح فكرة الوحدة الوطنية من منظور الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس، الذي وهب حياته للإصلاح ونشر العلم، والمناضلة الشريفة عن مكاسب الأمة وكل ما تمتلك هذه الأخيرة من مقومات وهوية وخصوصيات وتنوع ثقافي وتراث يمثل المشترك العام لوطن مترامي الأطراف بحدوده الواسعة والشاسعة، وبعد ذلك المهاد، أشار المؤلف إلى الواقع الأليم ومختلف الأوضاع المزرية التي كانت بمثابة السياسة الإستدمارية الممنهجة التي كانت سلطة الإحتلال تعمل على تكريسها، والإبقاء على استمراريتها باتباع سياسة (فرّق تسد)، ومن ثم راح الأستاذ الإمام يعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه بأية وسيلة ممكنة لتلخيص الأمة والوطن من تلك القيود الآسرة، يقول الدكتور فلوسي: (لذلك عمل رحمه الله على إحياء الوحدة الوطنية بين الجزائريين وتنميتها من خلال إحياء المقومات المشتركة التي تجمع بينهم ويتكون منها كيانهم .) . أ . هـ . (ص ؛ ص : 120).
و(مفهوم الوحدة الوطنية في فكر ابن باديس) أساسي وجوهري في فلسفة رائد النهضة الجزائرية، والوحدة الوطنية بالنسبة لكل الجزائريين هي محل إجماع، وهي محل الصراع بيننا وبين المحتلين، ويصف لنا المؤلف كلمات لابن باديس فيها من الدقة ووجازة المعنى: (وذلك واضح في وصية الإمام إلى المسلم الجزائري، إذ يقول له فيها:[حافظ على حياتك، ولا حياة لك إلا بحياة قومك ووطنك ودينك ولغتك وجميل عاداتك.) ، (ص : 122).
ويتابع الدكتور فلوسي دراسته الدسمة بالأفكار المتعلقة بمفاهيم الوحدة الوطنية، وسياقاتها التاريخية لدى ابن باديس، يوم كانت كلمة: (الوطنية) تُدْخِلُ قائلها السجن، وفي هذا الشأن خاض صديقنا المؤلف دراسته الشيقة وكتب بتحليله الوصفي عن: (دعائم الوحدة الوطنية في نظر ابن باديس)، (ص ؛ ص : 123 ـ 124). واستكمل بعد ذلك الحديث عن عناصر: )دعائم الوحدة الوطنية) ، وأعطى لكل إشكال حقه من البحث ، وعلى القارئ أن يقف على هذه الفقرات والأسطر القيمة: (الوحدة الدينية الإسلامية)، (ص ؛ ص : 124 ـ 126)، و(الوحدة اللغوية)، (ص ؛ ص : 126 ـ 128) ، و(وحدة الموطن)، (ص ؛ ص : 128 ـ 131) ، و(التاريخ المشترك) ، (ص ؛ ص : 131 ـ 132)،
و(وحدة المصير)، (ص : 133).
ويختم الباحث مصنفه بمعالجة: (جهود ابن باديس في سبيل المحافظة على الوحدة الوطنية)، مُرَكِّزًا على الهدف الذي ظل يتوخاه الأستاذ الإمام بعد كل تلك الجهود المضنية التي بذلها في هذا الصدد، من أجل ترسيخ مفهوم المواطنة والوحدة الوطنية في أذهان الجزائريين الذين قد يكون البعض منهم ضحية الدعاية الإعلامية الفرنسية التي سبق لها أن أشاعت وأذاعت مشاريع الفتنة والإندماج، والإنسلاخ من الدين، واستبدال الوطن الجزائري بأكذوبة الوطن الفرنسي، لمحو قداسة الوطن الجزائري من النفوس والوجدان. وقد تصدى ابن باديس لعنجهية الإستكبار الإستدماري، ووقف لها بالمرصاد، وأوصل فكرته ومضامين فلسفته إلى شعبه وأمته، ووجد الأستاذ الإمام تجاوبًا وقبولا كبيرين، ظَلا حتى بعد وفاته بمثابة السند والدعم القويين لأفكاره الإصلاحية وجهوده التعليمية، التي شقت مسارها وسط المضايقات والمتابعات التي كانت تحصي عليه حركاته وسكناته، وترصد كل مناشطه في كل وقت وحين.
واستطاعت الدراسة الضافية التي قدمها لنا الأستاذ الدكتور مسعود، أن تقدم طرحًا علميا متوازنًا من حيث التعليل والتحليل، وتمكنت من مناقشة أفكار وفلسفة رائد النهضة وفق منهج علمي رصين، تحكمه ضوابط الطرح الأكاديمي الجاد، بَلْهَ مقدرة الباحث على استجلاء واستقراء وفهم الفقه المقاصدي الذي اشتغل عليه الأستاذ الرئيس، واستخراج درره وأصدافه، وعَرْضِهَا بذلك الشكل البديع لجمهرة العلماء وطلبة العلم والقارئين، كما وُفِّقَ صاحب التأليف ـ الذي سيظل يُذْكَرُ على الدهر فَيُشْكَرُ ـ في الإشارة ولفت انتباه قارئ الكتاب إلى تحديد قضايا مهمة بنبشه في إضبارة المقاصد الباديسية، ومنها إضافة الأستاذ الإمام لمقصد (حفظ الحرية) الذي سبق به بعض معاصريه من أهل العلم والإجتهاد، وغير ذلك من المسائل التي تحتاج إلى القدرة على فحص النوازل، والدربة الراسخة، والدقة في التخريج، لدراسة قضايا الواقع المعاصر وما ينطوى عليه من معضلات ومستجدات، تحتاج إلى التبحر في العلم الشامل، والإطلاع الواسع للتعرف أكثر على الفكر المقاصدي، ولا يسعنا في نهاية المطاف إلا أن نُثَمِّنَ هذا العمل المثمر الذي وضعه واضطلع بتأليفه صديقنا الأستاذ الدكتور مسعود فلوسي الذي صبر وصابر، وخاض هذا المعترك الشائك..فتحية له على هذا المجهود وهذه الإضافة العلمية المتميزة، التي عكست مدى مثابرته ومرابطته في خنادق العلم والبحث.
(انتهى)