طباعة هذه الصفحة

دراسـة نقديــة

للشاعـر الطـبيب نبيل شريط

بقلم / عبد الله لالي

قــراءة في ديـــوان «مملكـة الأمـراء الصّغـار»


الطبيب الشاعر أو الشاعر الطّبيب.. هي إحدى مفارقات الأدب والإبداع، ولها في التاريخ الأدبي نماذج كثيرة وأمثلة تشع سناء وجمالا، ولا نعدو الحقيقة قيد أنملة إذا قلنا أنّ الدّكتور الأديب نبيل شريط المختصّ في الأمراض الصّدريّة؛ أحد هذه النماذج المتلألئة في سماء الإبداع.. !
تعجب أيّما عجب: كيف يجمع الطبيب بين العقاقير والأدوية ونوتات الشعر العذبة الرّقيقة..؟ ! ولكن سرعان ما يزول ذلك العجب والاستغراب إذا ما عرفت خلفيّة هذه التركيبة العجيبة في شخصيّة الدّكتور نبيل شريّط، فهو معرق في الأدب والإبداع ورثه كابرا عن كابر وتلقف مشعله من فطحل ارتكن إلى فطحل مثله.
فهو من مواليد زريبة الوادي ولاية بسكرة بتاريخ 26 نوفمبر 1977، وزريبة الوادي مدينة معروفة بشعرائها وأدبائها الكبار الذين برزوا في هذا المجال وطاولوا فيه الأشاوس الكبار، ويكفي أنّها مدينة مولود الزريبي وعمر البسكري، والشيخ بادي مكّي، وغيرهم كثيرون، ووالد شاعرنا هو الدّكتور عبد القادر شريّط المختصّ في الأدب المغربي، له كثير من الدواوين الشعريّة المخطوطة، وهو معروف وله مكانة بين شعراء الجزائر الأفذاذ، له قصيدة رائعة قال في مطلعها:
أهلا بقافلة حلّتْ بِوادِينَا...تسْتنْطِقُ الرّملَ إِيضَاحًا وتيْيينًا
كما أنّ جدّه مصطفى شريّط إمام وفقيه وشاعر كبير أيضا من أنداد محمّد العيد آل خليفة، فلا غرابة إذاً ولا عجب، ومن شابه أباه فما ظلم، فكيف إذا شابه أباه وجدّه ونهج نهجهما..؟ !

ديوان للأطفال
للدّكتور نبيل شريّط كثير من الكتب المخطوطة في مجال اختصاصه العلمي، ودواوين شعريّة مخطوطة نتمنى أن يوفق إلى طبعها، وقد شاء القدر أن يوفق إلى طبع أوّل دواوينه الشعريّة ويكون موجّها للأطفال، تحت عنوان (مملكة الأمراء الصغار)، وقد صدر الدّيوان عن دار علي بن زيد في طبعة جميلة وجذّابة عام 2020 م من القطع الكبير، وضمّ بين جناحيه ثماني قصائد شعريّة عموديّة، بعناوين متنوّعة هي:
- في ضيافة بسكرة
- وصلة في حبّ الوطن
- على خطى المصطفى
- فلّة والأقزام السّبعة
- الدّيك المغرور
- الحسّون الجميل
- الصّغيرة.. بائعة عود الثقاب
- الأرنب العنيد

عنوان كالبلسم

من العنوان تتجلّى لنا اللمسات المرهفة للشاعر الطبيب « مملكة الأمراء الصغار»، كلمات ثلاث من قاموس الطفل الأثير، إذا قلت «مملكة « اندهش الطفل وتشوّف لمعرفة فخامة الملك وعجائب الممالك، وإذا قلت (الأمراء) عززت هذا الشعور بوجود عوالم السّلطة والتملك وتحقيق كلّ الأمنيّات، ثم تجيء كلمة «الصّغار، لتجعل الحلم الأرجواني بين يدي الأطفال يمرح ويلعب ويقول:
 تذوّقوا كلوا، العبوا.. فكلّ هذا لكم «.

قصائد الدّيوان
 
الطفولة أرضية خصبة وعوالم للذاكرة القويّة

جاءت قصائد الدّيوان في موضوعات شعريّة متنوّعة، لها صلة بالطّفل وعالم الطّفولة، فالقصيدة الأولى «في ضيافة بسكرة تتغنى بأرض بسكرة أرض المنشأ وموطن الميلاد والأجداد، وعراقة التاريخ وقلعة العلم والعلماء، والقصيدة في عشرة أبيات يذكر فيها حبّه لهذه الولاية وفخره بها، ويقول في مطلعها:
مرحبا في بسكرة
أرض خير مبهرة
جود تمر ذوقها
حلوة كالسّكرة
ويمكن أن نعدّ هذه القصيدة تغنيا بالوطن الأصغر، بينما تغنّى الشاعر بالوطن الكبير في قصيدة أخرى بعنوان (وصلة في حبّ الجزائر)، ومطلعها:
في بلاد العرب ثائر... موطن ربي الجزائر
ويتحدّث فيها عن مفاخر الجزائر وأمجاد رجالها وتضحيّات أبطالها، أمثال شهداء الثورة وابن باديس رائد نهضتها والأمير عبد القادر الجزائري قائد المقاومة ضدّ المحتلّ البغيض ومؤسس دولتها الحديثة، إذ يقول:
من كفاح وافتخار ... يشهد المليون شاعر
نجمة زانت هلالا ...لونها رمز المفاخر
أبيض يلقى دلالا ...أخضر في المجد غائر
حرف باديس تغنّى ...كاتبا سطر البصائر
ينشر الأخلاق علما ... واعظا كلّ الضّمائر
تحت دردار وظلّ ... في ربى أمّ العساكر
يعتلي العرش أمير ... المكنّى عبد القادر
وفيها تخليد لتلك الشجرة العظيمة، شجرة الدّردار التي تمّ تحتها مبايعة الأمير عبد القادر بن محي الدّين بالإمارة وتفويضه لقيادة المقاومة. ثمّ يتحدّث عن ملحمة أوّل نوفمبر التي حقق الشعب بفضلها الاستقلال، واسترجعت أرض الوطن:
قد مضى الأعداء قهرا ... واستقلّ الشعب شاكرْ
والقصيدة الثالثة بعنوان (على خطى المصطفى)، تتألّف من خمسة عشر بيتا، فيها تغنٍ ببعض خصال النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم وشمائله، وذكر لجانب من أحداث السّيرة النّبويّة المشرقة، استهلّها بقوله:
لاح نور الأصفياء... فانتشى الكون الضياء
مولد في كلّ عام فيل... ذكر خير الأنبياء
بنت وهب بالمخاض...ترتجي خير الدّعاء
ويذكر أيضا نزول الوحي عليه في الغار وكيف جاءه جبريل فقال له: «اقرأ»، وذهب إلى خديجة ترجف أوصاله ويقول دثروني دثروني:
ذاك جبريل تجلّى... ملك بالوحي جاء
قال: «اقرأ بسم ربّك»... أرعدت تلك السّماءْ
دثّروني لست أدري...أيّ خطب في حراءْ

القصيدة الرّابعة عنوانها (فلّة والأقزام السّبعة)

قصيدة من ثلاثة عشر بيتا، يتناص فيها مع قصّة فلّة والأقزام السبعة المشهورة عالميا، والمعروفة على شكل قصّة كتبها الأخوان جريم، وهي في الأصل من القصص الشعبي الألماني، وهناك من يسميها (بياض الثلج)، كتبت بعشرات الأقلام العالمية والعربيّة بصياغات وأساليب مختلفة، وقد صاغها شاعرنا نبيل شريط شعرا عذبا، بشكل مختلف تماما، إنّها فلّة العربية فلّة بنت البلد الأصيلة، ذات الأخلاق العالية وممّا يقوله فيها:
فجرنا اليوم تجلّى... يبتغي الأنوار حلّة
في مروج يانعات... مسّها ضيم وولّى
إلى أن يقول فيها:
تقطف الأزهار فخرا...لم ترم في القيد ذلا
تحفظ الأخلاق درسا... إنّها الحسناء فلّة
القصيدة الخامسة هي قصيدة « الدّيك المغرور»


 الإثارة والتشويق في قصيدة الديك في الخمّ

سبق وأن نشرنا في مجلّة البسكري الصّغير العدد الثاني، التي تصدر عن فرع اتحاد الكتاب بولاية بسكرة، وتتألف من أربعة وعشرين بيتا وهي أطول قصائد الدّيوان، وربّما أكثرها إثارة وتشويقا، وهناك زيادة في الدّيوان ببيت واحد عما نشر في البسكري الصّغير، واختلاف يسير في صياغة الشطر الأوّل من البيت الثامن عشر وهو السّابع عشر في البسكري الصّغير، تروي القصيدة قصّة الدّيك في الخمّ وعلاقته بالدّجاج، يستهلّها بقوله:
ديكنا يصحو صباحا...ينشد اللّحن الأصيل
يسعد القلب انشراحا... يلبس الرّيش الجميل
ثم يشرع في وصفه مبيّنا خصاله وشجاعته:
قرمزي اللّون يعدو... ماله عندي مثيل
خلته في الخمّ ليثا...حارسا بطّي الهزيل
وتستمر حياة الدّيك في سعادة وهناء إلى أن يظهر ديك آخر، يريد مشاركته مملكته الصّغيرة فينقضّ عليه مثل ليث ضارٍ، ويلحق به هزيمة نكراء، فيولّي هاربا غير ملتفت وراءه، وينفث الدّيك ريشه مفتخرا مخاطبا الشاعر في غرور وعنجهيّة:
لا تسل مكري هدوءا... ذالك خلقي يا نبيل
لكنّ الدّيك المغرور هو الآخر لقي نهايتَه الشنيعة، وصار وجبة عشاء، أُطعم منها الجدُّ المريض:
حضّرت أمّي ثريدا...أطعمت جدّي العليل
والإيدام لحم ديك...خلته كبش الخليل
يا لها من نهاية..! تسيء الصّديق وتفرح العدوّ، ولكن هذا هو دوما مصير المغرورين المتكبّرين.
سادس قصائد الدّيوان حملت عنوان «الحسّون الجميل»
وتشكّلت من أحد عشر بيتا، تروي قصّة طائر حسّون في قفص له صوت جميل صدّاح، لكنّه اشتاق إلى الطبيعة وموطنه الأصلي، يقول الشاعر في مطلع القصيدة:
لونه الأخّاذ لاحا... كلّما غنّى صباحا
صوته الصدّاح لحن...عبق كالورد فاحا
يعشق الأغصان وكرا... يغمر القلب انشراحا
وإذ أنّه ملّ القفص واشتاق إلى حياة الحريّة؛ انتهز فرصة ذات يوم وفرّ عائدا إلى الغابة الفسيحة:
ذات يوم فرّ سرّا...يبتغي منّي السّماحا
والقصيدة السّابعة تحت عنوان «الصّغيرة..بائعة عود الثقاب»
وهي طويلة نسبيّا خصوصا بالنّسبة للأطفال تقترب من قصيدة « الدّيك المغرور» في عدد أبياتها، إذ تألّفت من اثنين وعشرين بيتا، وقدّم لها الشاعر بقوله:
«عن رائعة القصّة العالمية بائعة الكبريت للأديب الدانمركي، هانس كريستيان».
يقول الشاعر في مطلعها:
يومها فصل العذاب...في دروب من ضباب
تؤنس الأطفال حينا...ثمّ تسلو بالكتاب
وهكذا يسرد علينا الشاعر قصّة بائعة الكبريت أو بائعة عود الثقاب كما سمّاها، واصفا كلّ ما مرّ بها من متاعب وآلام حتى وصلت إلى نهايتها المأسويّة المحتومة:
عندما حلّ الصباح...وجثا موت القلوب
مزّق البرد وشاحا... واعتلى النّاي النّحيب

التغنّي بالوطن ومآثر الأجداد وسرد الحكايات

هي مبادرة طريفة ومنهج متفرّد في إعادة صياغة القصص العالمية شعرا. وخاتمة قصائد الدّيوان بعنوان مثير (الأرنب العنيد)، فما قصّة هذا الأرنب..؟ إنّه أرنب عابث، يعيث فسادا في المزرعة أو فناء الدّار يكسر بيض الدّجاج ويكسر سيقان الورد، وهدم وكر بعض الحيوانات:
لم يزل يكسر بيضا...تنتشيه الكبرياء
عابثا بالخمّ جهلا...هدّ وكر الضعفاء
فلمّا سمع الرّاعي الضجيج خرج يحمل بندقيته وأردى الأرنب قتيلا فصار:
يغزل الفرو سريعا...في وشاح أو رداء
ويطبخ اللّحم شهيّا... في قدور الكرماء
تراوحت القصائد بين أحد عشر بيتا وأربع وعشرين، وتكون بذلك قسمة مشتركة بين الأطفال ما دون اثنتي عشرة سنة واليافعين الذين يقاربون الثامنة عشرة، وهي تستهوي الكبار أيضا بلا شك، لاسيما من يرافقون أطفالهم في المطالعة، ويوجهونهم أثناء القراءة وتحصيل المعارف.
وفي القصائد تنويع مقبول – على قلّة عددها- إذ شمل التغني بالوطن ومآثر الأجداد، وسرد الحكايات التي تحمل العبرة والدّرس النّافع، وهذا ما يدفعنا إلى البحث عن القيم التربويّة والمعرفيّة في هذا الدّيوان.
قيم تربويّة ومعرفيّة:
- أوّل قيمة تقابلنا في هذا الدّيوان هي «حبّ الوطن والاعتزاز بتاريخ الآباء والأجداد»، ويتجلّى ذلك بكلّ وضوح في قصّتي «في ضيافة بسكرة» و»وصلة في حبّ الجزائر».
- القيمة الثانية هي غرس محبّة النّبي صلى الله عليه وسلّم في نفوس الأطفال، وتعريفهم ببعض خصاله، وجانب من سيرته الزّكيّة، ويظهر ذلك في قصيدة «على خطى المصطفى»
- التعاطف مع الأيتام والفقراء والإحساس بمآسيهم مثل قصّة «بائعة عود الثقاب».
- ذمّ خلق العناد والعبث وعدم الاكتراث بالآخرين «الأرنب العنيد».
- تمجيد الحريّة وغرس قيمتها الكبيرة في نفوس الأطفال»الحسّون الجميل».
يتبع...

الحلقـــة الأولى