طباعة هذه الصفحة

«فحولة السارد الأنثى »لزكرياء بوشارب

الهندسة المعمارية للقصّة وفق مبنى حكائي جديد

بقلم شامة درويش الحلقة الثانية

فحولة السارد / الأنثى نقطة من بحر الكتابة النقدية الجزائرية، لإحدى قصص زوليخة السعودي، حين قالت: (هيت لك) اليوسفية، كانت مفتونة باللغة، فخلّدتها اللغة...
يعتبر القرن السابع الهجري من أكثر القرون خصبا من حيث بروز التصوف والمتصوفة، لا سيما اهتمام العلماء والمفكرين المسلمين بما تنتجه هذه الفئة، وأبو الحسن الشاذلي واحد ممّن عاصر كبار المفكرين المتصوفين آنذاك، كمحي الدين بن عربي الحاتمي وأبو الحسن الشنشتري، وعبد السلام بن مشيش وغيرهم كثر، كان الشاذليّ في نفوس المتصوّفين رمزا للعشق والدروشة، مريدوه كثر فكان البدء والمنتهى في الدوران، اسمه كان نبوءةَ والده، فأوصى بأن يكون امتدادا لأبي الحسن، وهذا ما أبرزه زكرياء بوشارب حينما استهلّ كتابه باسم عاشق شاذليّ «أَنَا شَاذِلِيٌّ مَا حَيَيْتُ، فَإِنْ أَمُتْ؛ فَمَشُورَتِي فِي النَّاسِ أَنْ يَتَشَذَّلُوا»، وقد كانت تحيّة واضحة المعالم إلى الأستاذ المبدع الشاذلي كليل، الراعي المعنوي لملتقى زوليخا السعودي بخنشلة.
حدّد زكريا بوشارب الحالة الاستهلالية لحالة البطل وحالة أسرته أو قريته، رغم أنّها ليست وظيفة وتقع في الدرجة الصفر إلا أنها تستحق الذكر، وقد أعطى مثلا عن كلام عائشة في «عائشة» لم يكن موت أبي بالنسبة إليَّ إلا موجة ثقيلة من الهواء الراكد، أقبلتْ ثم مضتْ، وقد حملتْ معها صورة من الصور التي ألفتها وألفتني، وبذهابها تزلزلتْ كل الصور وتراقصتْ أمام عيني، فتهدِّم كياننا جميعاً، وضمّنا العم إليه، فلم يكن لنا سواه، كلنا بنات عاجزات، منها من شقَّتْ حياةً أخرى لنفسها، وبقيتُ مع أختين وأمنا الكهلة التي هدَّها هذا الرزء، لم يكن لنا أخ يحمينا من الغوائل، وذاك ما جعل حياتنا كلها بؤساً وشقاء، الأب المبتور، والأم الوالدة للبنات، إن قصتنا قصة الآلاف من النساء اللاتي عشن محرومات من الأنس والحنان، الشقاق الدائم، والصراع، وأخيراً بعد كل ذلك؛ يتم وحرمان». «ص: 34».

وظائف الغياب والرّوح المتعالية في تنكّرها للماضي

ليتطرّق بعد ذلك إلى وظيفة الغياب، وهي الوظيفة رقم 1، حيث أشار إلى دوافع أو عوامل الغياب، وذكر بأن الموت شكل من أشكال الغياب، ممثّلا صوت الغياب في كلام عائشة، في قولها: «ما الذي جعلك تهجر؟ تمرِّغُ قلبكَ الذي كان جباراً، وتُذِلُّ روحك المتعالية التي أبت إلا أن تهجر عالمها الأول، وتُنكر ماضيها». (ص: 24).
تأتي وظيفة التحذير، وهي الوظيفة رقم 2، حاملة شكل ومحتوى التحذير، فقد يكون أمرا أو اقتراحا، والتحذير هو منع البطل أو شخصية مقربة من القيام بشيء ما غير محسوب، ممثلا ذلك بصوت عائشة: «أما كان اندفاعكَ ونكوصك مهزلة من مهازل النفس الضعيفة؛ النفس التي تغمرها الأضواء فتجري غير عابئة بشيء، غير عابئة بما يتركه سعيها من خراب وحطام». (ص: 24).
الوظيفة رقم 3، مخالفة التحذير، وتكون إما خرقا للمنع، أو مخافة الأمر، وذكر الكاتب أن أشكال المخالفة توازي أشكال التحذير، ممثلا ذلك بصوت عائشة: «حملتَ خُطاكَ، وذهبتَ تشقُ الطريق إلى الأنقاض، إلى خراب يديكَ، واندفاعكَ على المفترق، افترقنا، فارقتني دون أن تلقي عليَّ نظرةً، عابراً في سبيلكَ الذي نبذَته حتى عيناكَ». (ص: 25).
تأتي الوظيفة رقم 4 وهي الاستطلاع؛ إذ تقوم الشخصية الشريرة بمحاولة استطلاعية لمعرفة شيء يتعلّق بالبطل أو أسرته أو قريته، أو شيء يخصّه، وقد يكن البطل هو المعني بالاستطلاع، وقد يتعدى الاستطلاع دائرة البطل «أ» الشرير إلى عناصر أخرى، وقد مثّلها الكاتب بصوت الطاهر: «لم أجد غضاضة في التقرب إليها وسؤالها عما تحس وتشكو». «ص: 40».

«ابتسامة العمر» قصّة شاملة لجميع الوظائف البروبية

تتوالى الوظائف عند الكاتب، إلى أن يصل إلى إحدى وثلاثين وظيفة، وكان يمكنه الاكتفاء بست وظائف لا سيما أن كل الدراسات الحداثية تقوم على اختصار ألجيرداس غريماس للوظائف المورفولوجية إذ قامت على أنقاض المشروع البروبي، مستفيدا من ملاحظات ليفي ستروس، والعوامل هي: الذات، الموضوع، المرسل، والمرسل إليه، والمساعد والمعارض، وتجمع بين هذه العوامل علائق كالرغبة والإرسال والصراع، وهذا النموذج العامل يتمخّض عنه ثلاث بنى عاملية مع القصة الكلاسية: بداية وعرض وخاتمة. ويعد النموذج العاملي L’actant actantiel، أهمّ مفهوم في النظريات الغريماسية السردية السيميائية
يخلص الكاتب الناقد زكرياء بوشارب إلى أنّ قصة ابتسامة العمر، شاملة لجميع الوظائف البروبية بعددها الكامل (31 وظيفة) دون أن تنقص أية وظيفة، ويعتبر هذا إضافة نوعية للقصة، لأن فلادمير بروب كان يجد بعض الوظائف منقصة من بعض الحكايات الروسية، وهذا ما سجّله كاتبنا. والسؤال المطروح: هل كانت زوليخة تعي أنّها تكتب لتحقق جميع الوظائف المورفولوجية للقصة، أم أنّها كانت تكتب وفق خطاطة سردية اسمها الموهبة؟
وقد أشار الكاتب إلى الهندسة المعمارية للقصّة، وفق مبنى حكائي جديد، بعد استيعابها للمدّ البروبّي، وذلك بعد تفكيكها وإعادة بنائها، فارتسمت الحكاية في معمارية هندسية أخرى؛ هي المعمارية الخطية، أو الهندسة الكلاسيكية، مما يوحي بأن قصة ابتسامة العمر في معماريتها الأصلية إنما تندرج ضمن ما يسمى بالسرد الجديد، أو الإبداع التجريبي، حيث تخضع القصة إلى المفارقات الزمنية التي تكسر خطية الأحداث، فتُكسر في إثرها شكلانياتها دون أن تفقد مضمونياتها على حد تعبير صاحب الكتاب، وهذا ما جعله يعيد كتابة قصة ابتسامة العمر، كتابة وظائفية، حتى يتسنى للقارئ اللبيب مقارنتها مع النص الأصلي، الذي لن يلحظ وجود أي خلل سردي؛ لا لشيء، سوى لأن المتن الحكائي لا يتغير بتغير المبنى الحكائي، وهذا ما يميِّز الكلام الأدبي عن الكلام العادي.

خيوط اللّعبة السّردية

يؤكّد زكريا بوشارب على أنّ الكاتبة زوليخة السعودي، كانت تتقن فنّ السرد، فقصّة ابتسامة العمر، تشبه معادلة رياضية متساوية الأطراف، ومتعدّدة المتغيّرات، وهذا ما يحيلنا إلى عبقرية السرد عند الكاتبة حسب رأيه، وهكذا تكون زوليخة قد أسست كتابتها على فرض قواعد ذهبية، يؤديها الأبطال بالتناوب، بحيث تتحكم الأديبة / السارد في تقسيم الأصوات بالتساوي بين البطلين الرئيسيين (عائشة والطاهر)، وجعلهما راويين ثانويين، وفي المقابل أعطت للبطل الثانوي (الصديق)، دور الراوي الرئيسي؛ فعلى الرغم من ظهور الصديق في فقرة موجزة تتوسط السرد؛ في قوله: «وبعد أن انتهينا من القهقهات..جلستُ هادئاً أنتظر قصة صاحبي، وما أحسبني أجهل النهاية، ولكن أردت أن أتسلى بخيالاته الخصبة التي كان يمتِّعني بها منذ أيام الثانوية..حتى فرَّقت بيننا المساعي، فاختار كل منا مسعاه وهدفه..واتصلت بيننا الرسائل حيناً..وانقطعت أحياناً..ولكنها ما كانت لتأثر في الود المتمكن المتأصل، ولا في ذلك الحب العميق الذي أكنه لروحه السامية التي هي نموذجٌ للنبل والعطف والبر..بخلاف ما وصفته صاحبة الأوراق..»؛ (ص: 39 / 40)، فإن هذه الفقرة تؤكد للقارئ أن الصديق هو الراوي الفعلي للقصة، ويتأكد هذا الزعم في نهاية القصة؛ في قوله: «وضحكنا مرة أخرى، وبعد سهرة امتدت حتى العاشرة، خرجتُ مودعاً، وقبل أن أصل إلى الباب سمعتُ صوت الأم عائشة تنادي؛ إليَّ بابتسام، وكانت الطفلة ابتسام نائمة في حضني، فردَّدتْ أعماقي المتأثرة: حقاً إنها ابتسامة العمر..» (ص: 45).
في النهاية يمكن القول: إن الباحث زكرياء بوشارب، ارتأى أن يجرّب خوض غمار التحليل السردي واستنطاق نصّ وفق مناهج حداثية، يكاد معظم الباحثين يهربون منها، لأن أصعب مواجهة هي مواجهة النصّ، فشكرا للباحث على هذه الخطوة النقدية الأولى في دربه البحثي، ومهما حاولت الإلمام بتفاصيل الكتاب إلاّ أنّني سأكون مقصّرة لأن القراءة على القراءة من أصعب الممارسات النقدية.