أخذت الفيروس عن والدتي بعد حضورها جنازة خالها
قضيت وقتي في غرفة منعزلة أصارع المرض
رنا واحدة من اللواتي أصبن بفيروس كوفيد- 19 انتقل إليها الوباء، رغم تقيدها بالإجراءات الوقائية منذ أن بدأت الجائحة في تمددها، بالأوساط الاجتماعية والطبية على وجه الخصوص، استطاعت هذه العائدة من الموت التغلب على الوباء رغم معاناتها من أمراض مزمنة أخرى، وتستعيد في هذا الفضاء مغامرتها لحظة اقبالها على تقبيل والدتها واحتضانها وهي طريحة الفراش، بعد ظهور اعراض اصابتها بفيروس كوفيد.
تشتغل السيدة رنا اية محمد سليم في قطاع الأدوية، وهي مهنة دقيقة جدا تتعلق أساسا بحياة الانسان، عندما يتعرض للمرض أ يصاب بداء ما، فهو حتما يحتاج الى أدوية مسكنة، توقف آلامه وتسكنها، بالإضافة الى كونها مثقفة ولها ميولات أدبية وتمتلك اصدارات شعرية، فهي محظوظة بتواجدها في وسط ثقافي، استطاع مساعدتها والرفع من معنوياتها بعد أن داهمها الوباء .
رحلة الاصابة بالمرض والدخول في عالم الأموات
قالت محدثتنا، إنها ذهبت إلى بيت والدتها في زيارة عادية بعد فترة الحجر المنزلي التي ألزمت الجميع الامتثال والتقيد بالتعليمات الوقائية، وبعد فترة انقطاع طويلة من زيارة بيت العائلة، تقول: «عند دخولي الى البيت وجدت أخي وهو مدير مستشفى يطلب مني وضع الكمامة فسألته، لم ؟ ليجيبها بقوله:» انه يشك بأن والدتها مصابة بالكورونا، فهي تعاني من مضاعفات مرضية أعراضها تشبه تلك المتعلقة بفيروس كوفيد 19 « .
انتقلت العدوى الى والدتها بعد حضورها جنازة أخيها المتوفي «أي خالها»، وتضيف في ذات الشأن «دخلت وبقيت قليلا وبعدها عدت الى بيت أهل زوجي، لكن ابنتي الكبرى بقيت هناك»، وعند عودتها إلى العاصمة بعدها بيوم، اتصل بها أخوها ليخبرها أن والدتها مصابة بالكورونا وكان ذلك يوم الجمعة .
بعد تأكد اصابة والدتها بالفيروس اللعين وفي لحظة ذهول وفشل انتشر بكامل جسدها، لم تقو على الوقوف، وفي برهة من الزمن مرّت بطيفها عشرات النهايات الواحدة منها تختلف عن الأخرى.
تعمّدت ابلاغ مسؤولي في العمل تجنبا لإصابات أخرى
فكرت كثيرا قبل أن ترفع الهاتف وتتصل بمسؤولها في العمل، تبلغهم بعدم حضورها وتغيبها الاضطراري، إلا أنه بادرها بتبرير ذلك، وهنا توقفت رنا وتجرعت أنفاسها بحرقة، حيث صارحت مسؤولها المباشر بالحكاية، منذ زيارتها بيت أهلها الى غاية اكتشافهم إصابتها بالفيروس اللعين ولأن ضميرها لا يسمح لها مباشرة العمل، وامكانية نشر العدوى في الوسط العمالي والكثير منهم مصابون بأمراض مزمنة ولديهم عائلات من ورائهم: قائلة: « لا يمكن أن أكون سببا في نقل المرض إليهم فيموت أحدهم فيعذبني ضميري طول حياتي» .
لم يكتف مسؤولها المباشر بصمته وذهوله عبر المكالمة الهاتفية، بل أثنى عليها مؤازرا إياها على صبرها وتشجيعها لمواجهة المرض في حال ما إذا تبين أنها مصابة هي الأخرى، مكبرا فيها ضميرها المهني وصلابة جأشها حينما فكرت بهذه الطريقة السليمة، وصارت مثالا حيا يتداوله الجميع في الوسط العمالي .
دخلت والدتها المستشفى بعد مضاعفات السكري، حيث تعالج عن طريق جرعات الأنسولين أربع مرات في اليوم، بالإضافة الى معاناتها من تبعات القلب، الأمر الذي أثر عليها في المستشفى، وفي رحلة علاجها تقول كانت « تهذي من المرض لا تنادي إلا باسمي « رغم ان لديها سبع بنات أخريات وعندما شعر أخوها وهو طبيب بأن والدته لا تتجاوب مع العلاج في المستشفى أخرجها وفضل علاجها في البيت، ثم اتصلوا بها يطلبون منها الالتحاق بالبيت عاجلا، لأن والدتها لم تكن تأكل شيئا، وهذا ما أثر على صحّتها، وكانوا يدركون أنه ربما عند رؤيتها لها ستأكل من يديها وتعدل عن فكرة الطلاق مع الأكل في هذه الوضعية، فقد يؤثر ذلك على جهاز المناعة لديها.
تقول رنا: «ذهبنا جميعنا نحن بناتها المتزوجات، لكن كنت أنا الوحيدة التي عانقتها وظلت تبكي فرحة برؤيتها لي»، لتبادر والدتهم في سؤالها عن سبب وضعهم للكمامات، بالإضافة إلى أنهم كانوا يخفون عليها إصابتها بالمرض، لكنها لم تقتنع ولأجل إقناعها تقول رنا: « تخليت عن كمامتي وجلست أمامها وأطعمتها بيدي وكانت في تلك اللحظات تقوم بعناقي وتقبيلي وتقبيل يديا لم أكن لأمنعها من فعل ذلك إنها أمي كنت مستعدة لأي شيء المهم أن تشفى والدتي «.
غادرت ذلك اليوم وفي منتصف الليل كنت نائمة ويأتي اتصال بأن والدتي توفيت سقطت حينها على الأرض وكاد قلبي أن يتوقف لولا رحمة الله بي، وفي نفس الوقت يتصلون مرة أخرى ويقولون لي أنها بخير وعند الصباح وجدت نفسي أتصبب عرقا من الحمى ووجع الرأس فعلمت أنني أصبت بالكورونا هكذا أصبت بالمرض، إنها أمي وكنت مستعدة للتضحية بحياتي لأجل أن تشفى.
الأصدقاء والقرّاء كانوا خير صاحب في الرحلة
« كنت أعمل دون توقف، حريصة على الدوام في عملي، لكن بعد إصابتي بالمرض قضيت أغلبية وقتي في الفراش في غرفة منعزلة ومظلمة أصارع المرض، ورغم أنني انعزلت عن العالم كله وعن أولادي، اخترت طرق أخرى للعيش ومجابهة المرض ..، كنت أتواصل مع الأهل والأصدقاء عن طريق شبكة التواصل الاجتماعي أتطلع إلى أشياء كثيرة وكان أصدقائي أكبر دعم لي في مواجهة المرض، والحمد لله أنا أتعافى وقد اجتزت المرحلة الأصعب».
وأضافت رنا سليم «عدت إلى قراءة الكتب رغم أن المرض استنزف مني كل طاقتي وقوّتي، لأنه وصل إلى الرئتين، وهذا ما أثر علي رغم افتقادي لمناعة جيدة وكافية لأقاوم بها المرض، صرت ضعيفة وأتنفس بصعوبة، قاومت ولا زلت واجتزت مرحلة الخطر لأن فترة المرض كانت من أصعب أيام حياتي وكأني عدت من البعث من جديد، وتلك الفترة الحرجة تقول الشاعرة رنا : « لا أتمناها حتى لعدوي، فقد أصيبت أمي أولا ثم انتقل إليها الفيروس مباشرة .»
تقول رنا إنها كانت تعمل بشكل عادي في وظيفتها بمصنع الأدوية الى غاية ان شعرت بعلامات المرض تهز جسمها، حيث التزمت البيت منذ شهر فقط وتم منحها عطلة لمدة 17 يوما وبعدها منحتها ادارة المستشفى عطلة مرضية أخرى لمدة 45 يوما، وعندما طالبت بتقليص مدة العطلة المرضية رفضت الطبيبة، ثم قامت بطردها وتوبيخها، لكنها عادت الى نفس المصحة مجددا، حيث وجدت طبيبة أخرى لتقلص من حجم العطلة المرضية الى شهر واحد فقط، بدل المكوث في الفراش لأنه - بحسبها- هو المرض بعينه، كما ان العودة إلى العمل بالنسبة إليها يعتبر خدمة انسانية نبيلة، لأنها تساهم في محاربة الوباء عن طريق صناعة الأدوية ..
الصحّة النفسية غاية الجميع والقهر النفسي القاتل الأكبر
بعد تجربة الحجر الصحي تقول رنا « من المألوف العيش تجربة الحجر الصحي بكل قيوده بعد تفشي المرض ورغم معاناتها، لم تنظر إليه على أنه مرض قاتل، بل كنزلة برد حادة وستمضي، ولمجابهة الوباء يتوجب مواجهة المرض وتجنب الهلع والخوف، لأنهما سيؤثران على مناعة الانسان، فالصحة النفسية هي جزء لا يتجزأ من الصحة بشكل عام «، وفي هذا الشأن دعت الى محاربة المرض نفسيا قبل كل شيء، وهو ما كانت تنشره عبر صفحتها في شبكة التواصل الاجتماعى.
الكتاب رفيق عزلتي
تعيش الشاعرة رنا كغيرها من الجزائريين المصابين بالأمراض المزمنة، فهي الى جانب تعرضها الى الاصابة بكوفيد- 19 الذي استوطن جسدها، حيث كانت لديها مشاكل في القلب وتعاني من ضغط الدم المرتفع، بالإضافة الى مرض الربو الذي أزّم حياتها وجعلها على النقيض بعد وصول المرض الى الرئتين وادخلها في أزمة تنفس حادة جدا.
استنزف المرض منها كل طاقتها وقوتها، وكانت لا تنام إلا القليل من الليل، ساعة واحدة أو ساعتان، واصفة حالها في تلك اللحظات الحرجة بالقول: «كنت أجلس طول الليل قرب النافذة لعدم قدرتي على التنفس وأتواصل مع أصدقائي كانوا يساعدونني لاجتاز كل ليلة على خير ويمكن ذكر بعضهم وهم من عالم الثقافة والأدب والطب سماح بن داود من تونس، الشاعر طارق خلف الله من بسكرة، الشاعر احمد شوقي نوار خرخاش كانوا أكبر دعم لي في مواجهة المرض لن أنسى جميلهم مدى الحياة «.
بحسب ذات المتحدثة هناك أصدقاء اتصلوا بها يعرضون عليها مساعدتها ماديا، حيث كانت مواقفهم - بحسبها - «عندي بالدنيا بأكملهما « كما قالت، وتضيف في ذات الشأن «كانت تصلني رسائل دعم كثيرة، كلها حب وخاصة من طالبات جامعيات بعضهن يقلن لي رنا نحن نحبك رغم أننا لا نعرفك ونريدك ان تشفي بسرعة وتعودي إلينا، وهذا كان أكبر دعم لي «.
تقول رنا العائدة الى الحياة بعد رحلة موت أكيدة إن بعض الأصدقاء اتصلوا بها طالبين رقم حسابها البنكي أو البريدي لتزويدها بالمال لأجل العلاج، وهنا تتوقف وتنفجر عيناها بالدموع باكية بحرقة، وهناك من اتصلت بها بغرض تكفلها بعلاجها، حيث ذكرت محدثتنا الكثير من الاسماء التي قدمت لها المساعدة المعنوية.
أضافت محدثتنا ان هذه المواقف أبكتها ومواقف أخرى ذكرت بعضا منها فقط، فالأصدقاء الحقيقيون- بحسبها - يظهرون في مثل هذه المواقف، وبنبرة قالت « لو كان الشعب الجزائري كله هكذا يتضامن مع بعضه البعض في أوقات الشدة لكنا جميعنا بخير»
الحب والدعم النفسي أكبر مقاوم للمرض
أوضحت رنا ان هناك أشخاص يعانون وليس لديهم حتى ثمن شراء الخبز أو علبة دواء وكانت تتساءل ماذا كان سيحدث لها لو لم تكن لديها أجرتها الشهرية، وكيف يا ترى حال الذين ليس لديهم عمل، وبحسرة تضيف: « لو كنت غنية ما كنت تركت أحدهم يحتاج ، أتساءل كثيرا عن الذين يملكون الكثير من المال ولم لا يقدمون المساعدات الإنسانية للمحتاجين، ماذا سيفعلون بتلك الأموال المخزنة والناس تموت، أم أنهم يحسبون نفسهم خالدون في هذه الحياة، ليتهم يسمعون النداء.
وتعود الى حياتها قبل المرض لتروي «والله كنت أقول لو طلبوني لأجل أن أتبرع لخدمة هؤلاء المصابين في المستشفيات، لكنت أول من يلبي النداء وما تأخرت، لكن للأسف كنت واحدة من هؤلاء الذين أصيبوا بالكورونا».