صولة الشّعر أسبق من جولة النّثر
تفاعل مع جائحة «كورونا» تفاعلا إنسانيّا رهيفا، وانعكس ذلك بجلاء على كتاباته الشعرية والنثرية، مستنطقا دلالاتها وإيحاءاتها من الرثاء والمدح.
إنّه الشاعر»طيب كرفاح «الذي أكّد على «أهمية الكلمة الأدبية الراقية في بناء وتعزيز الوعي وتقويته في النفوس، باعتبارها وسيلة من وسائل التغيير، ومناشدة الأجمل من الحياة الّتي تتوق إليها المجتمعات».
وقال «كرفاح»، في لقاء مع «الشعب»، أنّ الأدباء وخصوصا الشعراء هم الأكثر تأثرا بالمواقف العصيبة والأزمات وتأثيرا فيها، والشّواهد على ذلك كثيرة، ولا أدل على ذلك من الهبة الأدبية المتنوعة منذ بداية أزمة وباء كورونا كوفيد
- الشعب: لو طلبنا منك تقديم نفسك، ماذا تقول؟
الرّوائي طيب كرفاح: الروائي طيب كرفاح شاعر من ولاية الشلف، انخرطت في سلك التعليم كأستاذ للتعليم الثانوي لفترة تجاوزت 30 عاما، وفي 2015 تقاعدت لأتفرّغ لشعري وأدبي ورحلاتي الثّقافيّة..
مهووس أنا بالأدب شعرا ونثرا، منذ صباي قارئا متذوّقا، وبعد الثّلاثين شاعرا محترقا بلهيب وجع الحرف.
- الأدب مرآة عصره، والأديب ابن مجتمعه يؤثّر في محيطه ويتأثّر..
لا أحد ينكر أنّ الأدب مرآة عصره، وأنّ الأديب ابن مجتمعه يؤثّر في محيطه ويتأثّر به، دون أن يمنعه ذلك من رحابة أفقه الإنسانيّ وتفتّحه على الآخر فكرا وأدبا وثقافة واجتماعا...وبعيدا عن المفهوم الأكاديميّ للأدب وعن تصارع النّظريّات النّقديّة وفلسفات المذاهب والتّيّارات الأدبيّة المختلفة، أرى أنّ الأدب هو الإنسانيّة بهمومها، وأفراحها بتطوّرها، وانتكاساتها بركونها واستشرافاتها...
الأدب بقدر ما يكون وجها عاكسا لذات الشّاعر الإنسان بصوفيتها ورومانسيتها ورماديّتها، بقدر ما يحمل على عاتقيه رسالة التزاميّة توجّب على الأديب أن يتفاعل مع محيطه السّياسي والاجتماعيّ والفكريّ والثّقافيّ والحضاريّ، ويسهم في توضيح الرّؤى وبثّ الوعي واقتراح الحلول حتّى ولو مجازا لا تصريحا، دون الإخلال بجماليّات أدبه، مع سعيه الدّائم لاقتناص الإبداع والتّجديد.
- يمكن للأديب المساهمة في بناء مجتمعه، ويمكن أن يكون معول هدم أيضا، هل لنا توضيح ذلك؟
الأدب كالدّين وظيفتهما تحقّق التّوازن بين الاهتمام بهموم الذّات دون إفراط، والالتفات إلى الرّسالة الاجتماعيّة دون تفريط مع وجوب التّفطّن لخطورة هذه الرّسالة...ويمكن للأديب أن يسهم في بناء قيم مجتمعه، يمكنه أن يكون معول هدم وتقويض لهذه القيم..
وإذا كانت الكلمة البسيطة العفويّة، لاسيّما إن كانت طيّبة بنّاءة، تحدث في النّفس ما تحدثه من إيجابيّة. فما بالك بالكلمة الأدبيّة الراقيّة فكرا، الجميلة صورة، الهامسة جرسا وإيقاعا؟
ومن ينكر دور الأدب الإصلاحيّ والنّقدي الاجتماعيّ مثلا في الدّعوة إلى تغيير الأوضاع إلى الأفضل ومناشدة الأجمل من الحياة الّتي تتوق إليها المجتمعات؟ ومن يتهّم الأدباء بأنّهم تخلّوا عن رسالتهم السّاميّة، ولم يرافقوا مجتمعاتهم في ظروفها القاهرة وأخطارها الكبرى..؟
وعلى سبيل الذّكر لا الحصر بكى الكثير من الشّعراء أطلال الأصنام، بعدما دكّها زلزال عام 1980، وحتى زلزال عام 1954
لم يفت شاعر الثّورة مفدي زكريّاء أن يكتب فيه شعرا...وما عسانا نقول عن الشّعراء الّذين عصرهم طوفان العاصمة في خريف 2001 وبكوا بحرقة باب الواد،
وكنت أنا أحدهم..؟ والشّواهد كثيرة، ولعلّ أبرزها هبة أدبية أدبية عموما وشعرية خصوصا وفيها من الرّثاء والتّوجّع، وفيها من التّحسيس والتّنوير ما يُكتَبُ ويُلقى هنا وهناك ولو من وراء الجدران عن جائحة كورونا وزمن الكورونا ومآسي الكورونا..
- كيف يمكن للشّعر تحقيق الوظيفة الإنسانية في التّعبير؟
للشّعر مقامه السّامق في الآداب الإنسانيّة منذ الأزل..فهو الّذي رافق البطولات والملاحم وخلّدها أكثر من النّثر، وكشف مكنونات وخبايا الذّات وصوّرها تصويرا عاطفيّا مؤثّرا جذّابا أكثر من النّثر.
فبقدر ما يظهر جلال النّثر في الحكمة والفلسفة والمنطق وهدوء السّرد في الحكي والقصّ بقدر ما يهيّج الشّعر مشاعر المتلقّين ويثير حماستهم، فيندفعون اندفاعا مسحورين بنفخاته ونفحاته...ومن خلّد ملاحم اليونان والفرس والرّوم وغيرهم من الأمم التّي كان لها شأنها الحضاريّ آنذاك..؟ أليس الشّعراء..؟ ومن صوّر غزوات العرب وبداوتهم وحلّهم وظعنهم وقيمهم وموروث عاداتهم وأعرافهم..؟ أليس الشّعراء؟ وفي عصر العرب الحديث من زلزل الجبال الرّاسيات إبّان الثّورات على المحتلّين والطّغاة، أليس الشّعراء..؟ ومن صوّر مآسي الشّعوب العربيّة في أخلاقها وظروفها القاسيّة في ظلّ الاستبداد والإقطاع، ودعا إلى التّضامن والإحسان والنّهوض والانتفاضة على الظّلم بلغة شاعريّة لاهبة ملهبة؟ أليسوا هم الشعراء؟ دون أن ننسى دور الرّوائيّين والقاصّين والنّاثرين عامّة، إلّا أنّ صولة الشّعر في هذا المضمار أسبق من جولة النّثر..
كلّ ما ذكرته من شواهد تاريخيّة واقعيّة في اعتقادي - وهو غيض من فيض - يؤكّد بما لا يدع مجالا للشّكّ بأنّ الشّعر - رغم اتهّامه بالانطوائيّة والسّوداويّة حينا وبالخرافيّة والهلاميّة حينا آخر - قد أدّى وظيفته الاجتماعيّة والوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة، ولا زال وسيبقى ديدنه هكذا لا يمكنه أن يحيد عن أصله في التزامه برسالته الخطيرة النّبيلة..
- كيف تقيّمون المشهد الشعري في الجزائر؟
قبل أن نتحدّث عن أداء الشّاعر الجزائريّ لرسالته من عدمه يجب أن نصارح أنفسنا بهذه الأسّئلة: وماذا قدّم المجتمع للشاعر؟ لماذا يتهافت هذا المجتمع على مهرّج أو عابث ويرفعه مقاما سنيّا ولا يكترث للشّعر وأماسيه وملتقياته؟ ولماذا تغدق الوزارة الوصيّة على أولائك وأولائك وأولائك بالمليارات ولا تكرم شاعرا حتّى بالتّكفّل بطبع ديوان من دواوينه وتتركه نهبا لسماسرة النّشر؟ وهل الشّاعر قطعة منديل ورقيّة نهلّل له ونتوسّله لتفعيل مناسباتنا الوطنيّة وبعد انقضاء النّشاط نلقيه في سلّة التّهميش والتّناسي؟
الحقيقة المرّة هي أنّ الكثير من الشّعراء في الجزائر يعيشون حياة (زواليّة) يقتاتون عوزا وضيقا صباح مساء، يصارعون مآسيهم دون ملتفت أو معين، والكثير من كبار شعرائنا قضوا في صمت رهيب بعد مرض عضال أتى على الأخضر واليابس في أجسادهم ومكامنهم، قضوا حاملين معهم إلى قبورهم حسراتهم ولوعاتهم، جراء التّهميش واللاتقدير.
ولعلّ نهاية الكبير عثمان لوصيف منذ مدة وجيزة خير شاهد..ورغم كلّ هذا ما تخلّى الشّاعر الجزائريّ عن وطنه وما تجرّد من رسالته الاجتماعيّة، فهو يحيا مع الشّعب أفراحه وأقراحه ويخلّد بحروفه بصماته هنا وهناك.. لماذا؟
بكلّ عفويّة لأنه يكتب الصّدق بقلب صادق وحرف صادق، يكتب المجتمع بعين المجتمع وقلب المجتمع، داعيا إلى الحقّ والخير والحبّ والجمال..
- هل يمكن القول أنّ صوت القصيدة الشّعرية في الجزائر بلغ مراده؟
كما ذكرت آنفا ما تخلّى الشّاعر الجزائريّ أبدا عن رسالته الوطنيّة والاجتماعيّة حاضرا وماضيا ولن يتخلّى عنها مستقبلا...والحديث بالتّفصيل عن هذه النقطة لا يسعه المجال هنا، ولكن نقول باختصار أنّ بوادر اهتمام الشّعر الجزائريّ الحديث بقضايا الوطن والأمّة نلمسها في أشعار مدرسة الإصلاح الوطنيّ الّتي ظهرت منذ قرن من الزّمن تقريبا، وكان من روّادها إبراهيم أبو اليقطان، محمّد السّعيد الزّاهريّ، محمّد الهادي السّنوسيّ الزّاهريّ، محمّد العيد آل خليفة، أحمد البدويّ جلّول، أحمد سحنون، الرّبيع بوشامة وغيرهم كثير..
فقد سخّر هؤلاء أقلامهم للدّفاع عن قيم الوطن، وسعوا لإصلاح المجتمع من تخلّفه وجهله وانحرافه، وقاوموا المحتلّ مقاومة شرسة ليلتحق بركبهم شعراء الثّورة مع منتصف القرن، ويهبّوا هبّة يراع واحد ولسان واحد لشقّ جلابيب دجى المحتلّ الغاشم ولنا في الأشعار الوطنيّة الثّوريّة لكلّ من مفدي زكريّاء وأبي القاسم خمّار ومحمّد الأخضر السّائحي ومحمّد الأخضر عبد القادر السّائحي وعمر البرناوي وعبد اللّـه شريّط وأبي القاسم سعد اللّه وصالح خرفي وصالح خبّاشة ومحمّد الصّالح باويّة والقائمة طويلة جدّا..
ما يؤكّد تأكيدا التزام الشّاعر الجزائريّ عبر كلّ المحطّات المصيريّة بقضايا وطنه، والاستماتة في الدّفاع عنها آملا في تحقيق بناء جزائر حرّة سيّدة راقيّة..ثمّ جاء شعراء ما بعد الاستقلال ولم يحيدوا عن نهج الوطنيّة الصّادقة رغم اختلاف مشاربهم وتصادم وجهات نظرهم أحيانا، وواكبوا معا التّطوّرات الّتي عاشتها الجزائر اجتماعيا وسياسيّا وثقافيّا، فأدلى كلّ بدلوه إيمانا منه أنّه يحمل رسالة الوطن الموحّد الّذي يسع الجميع ومن أسماء شعراء ما بعد الاستقلال سيّما بين سنوات 70 و80 نذكر ذكرا فقط وليس حصرا: سليمان جوّادي، عبد العالي رزّاقي، أحمد حمدي، حمري بحري، عمر أزراج، أحلام مستغانمي، علّاوة وهبي، مصطفى الغماري، مبروكة بوساحة، حسن بن رمضان، عبداللّه طمّوح، مصطفى بلمشري، زينب الأعوج، عيّاش يحياوي، ربيعة جلطي، عبد الحميد شكيل، مسعود حديبي وغيرهم...ولا زالت قوافل وقوافل الشّعراء حتّى السّاعة، تعبّ بحر الجزائر، متعلّقة بحبّها، راجية تقدّمها وتطوّرها، رغم كلّ المعاناة والإقصاء والتّهميش.
- ما هي مشاريعكم الثّقافية والأدبية المستقبلية؟
إضافة إلى المناشير التّوعويّة المتعاقبة على صفحتي بموقع التواصل الاجتماعيّ، لقد تفاعلت مع المأساة تفاعلا إنسانيّا رهيفا...كيف لا ونحن نرى إخواننا يصابون بالمئات ويفارقوننا بالعشرات دون توديع أو تأبين وتشييع..؟
تفاعلي كان أدبيّا فنيّا تمثّل في تسجيل فيديوهات لثلاث قصائد في الموضوع: قصيدة «ورود في جفن الموت..» في مارس الفارط مهداة لإخواننا في البليدة مع بداية محنتهم شدّا لسواعد صبرهم وتخفيفا من توجّعهم وتفجّعهم..وقصيدة «جنود الرّحمة» في شهر أفريل مهداة للأطقم الطبيّة المرابطة بمشافينا لمواجهة الجائحة اعترافا بجهودهم وتقديرا لتضحيّاتهم الجسيمة..إضافة إلى قصيدة «الرّعب وباء»، شاركت بها في مارس الفارط في ملتقى شعريّ وطنيّ افتراضيّ في قلب الحجر الصّحّي..وقصيدة « الكمّامة» وهي قصيدة ساخرة هادفة تصوّر مدى استهتارنا وعبثيّة تسيير أزمة الجائحة عندنا، وهي غير مسجّلة بل منشورة فقط في شهر جوان.
نشرت الكثير من نصوصي في اليوميّات والأسبوعيّات منذ منتصف التسعينات حتىّ مطلع سنوات 2000، كما شاركت في العديد من الملتقيات الأدبيّة والمهرجانات الثّقافيّة في الوطن وخارجه، فيما صدرت لي أوّل مجموعة شعريّة «محاريب الصّمت» عام 2011، وثاني مجموعة «توأم البوح» عام 2017، وأنا في انتظار صدور مجموعتين أخريين هذه الأيّام «سِفْرُ الشّوق» و»الموت..على صهوة الكوريدا»، ولي أعمال أخرى مخطوطة تقارب السّبعة أو أكثر، تتنوّع بين الشّعر والهايكو وأدب السّيرة والنّصوص النّثرية في أثواب متباينة، تنتظر دورها في الطّابور لتشرق على قرّائي الأعزّاء ذات زمن..
- هل من كلمة أخيرة في ختام هذا اللّقاء؟
نسأل اللّـه أن يرفع عنّا الوباء عاجلا ويغيثنا برحمة الشّفاء والعافية، ونشكر جريدة «الشعب» لقيامها بدورها الإعلامي الثقافي، وما تقدّمه للثقافة والفن والأدب من اهتمام وتقدير.