الحلقة الرابعة
تزامنت أحداث السّاحة العربية مع الأزمات التي عاشتها الجزائر بعد أحداث أكتوبر 1988، والتي أجهضت مشروعا كان الحديث عنه بدأ يتزايد وهو الوحدة بين ليبيا والجزائر، وهو موضوع لم يكن لمعظم دول الجامعة العربية والجامعة أي دور فيه، اللّهمّ إلاّ ما دار حوله من تحرّكات كانت تهدف إلى إجهاضه.
وتشهد الجزائر حدثين لكل منهما أهميته البالغة، كان الأول هو لقاء زيرالدا الذي عقد على هامش القمة العربية في الجزائر في يونيو 1988، وضمّ قادة المغرب العربي الخمسة، معمر القذافي والحسن الثاني ومعاوية ولد سيدي أحمد الطايع وزين العابدين بن علي إلى جانب الرئيس الشاذلي بن جديد بطبيعة الحال.
كان هناك اهتمام جزائري حقيقي، فبرغم أنّ حصيلة التجربة التي عشناها في العقود الثلاثة الأخيرة أكّدت أن فكرة المغرب العربي «الواحد» هي حلم مستحيل التحقيق في المدى المنظور، لكن المغرب العربي «المتحد» بدا أمرا في متناول اليد، إذا صدقت النّوايا، واستطعنا أن نستلهم الأفكار العظيمة التي كانت وراء نضال السابقين الأولين.
ويظن البعض، وبعض الظن فقط هو الإثم، بأنّ اللقاء تمّ بضغوط من الرياض، وتناقلت الأفواه إشاعات كثيرة عن دور فرنسي مؤيّد لهذا الاتجاه، وربما كان هذا كله من أسباب فشل اتحاد المغرب العربي، لأن ما بني على الرّمال يظل دائما معرضا للسقوط.
غير أن الحدث الثاني، والذي ادعى البعض أنه أثار بعض الأشقاء في مصر، وبالتالي بعض دوائر الجامعة العربية، كان انعقاد الدورة التاسعة عشر للمجلس الوطني الفلسطيني في 15 نوفمبر برئاسة ياسر عرفات، والذي أعلن فيه عن قيام الدولة الفلسطينية، وسرت يومها إشاعات تقول بأنّ مصر يزعجها أن يتم أي أمر يتعلق بفلسطين بعيدا عنها، وهو أمر لم يكن لنا يدٌ فيه، ولم تتأكّد الإشاعة من مصادر مصرية في حدود ما أعرفه، ولم تكن العلاقات الديبلوماسية بين البلدين قد استئنفت آنذاك.
ولقد أشرت لهذا كله ليكون حاضنة للحديث عمّا عرفته المنطقة بعد ذلك، والذي يرتبط بشكل مباشر بموضوع هذه السلسلة من المقالات.
وتعرف المنطقة العربية في 2 أغسطس 1992 زلزالا رهيبا يرى كثيرون أنه كان نتيجة لفخ بالغ الخبث لا يختلف كثيرا عن فخ 1967، وبدت النتائج استكمالا لما أنجز في «كامب دافيد»، وكان الهدف المستقبلي الواحد الأوحد هو تدمير كل إمكانيات العمل العربي الوحدوي، وكانت دوائر الجامعة دائما كالعهد بها.
فقد قامت القوات العراقية بغزوٍ أحمقَ لدولة الكويت، وفشلت الجامعة في التعامل السياسي الذكي والمنطقي مع الغزو، فالعين وإن كانت بصيرة فلا فائدة منها إذا كانت اليدُ قصيرة، وهكذا لم تتمكن، لهزالها الهيكلي والوظيفي، من وضع كل شيء حيث يجب أن يكون، وسيقود ذلك إلى استقالة الشاذلي القليبي، أول أمين عام غير مصري من مهامه إثر مهزلة المؤتمر العربي في 1990، والذي كان تفويضا صريحا لقوى أجنبية عن المنطقة بغزو أحد بلدانها، وهو ما يُذكر بالدور السلبي للرئيس المصري آنذاك، والذي رواه بالتفصيل الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه الرائع «أوهام النصر والهزيمة».
قبل ذلك، احتضنت العاصمة الأردنية قمّة عربية في 28 مايو 1990، ويروي هيكل أنّه كان هناك إحساس في أروقة المؤتمر بأنها القمة الأخيرة، بينما يقول صدام حسين بعد ذلك في يوليو بأن الأسلوب الجديد الذي ظهر من بين صفوف العرب هو قطع الأرزاق بعد أن تمّ تطويق الأسلوب الذي كان يعمل لقطع الأعناق (..) وانخفاض دولار واحد من سعر النفط يؤدي إلى انخفاض مليار دولار من عائدات العراق سنويا.
وتصاعدت مع بدايات صيف 1990 تساؤلات ملحّة: ماذا كان مخطّط مصر آنذاك؟ فالرئيس (مبارك) لم يكن يشعر بالراحة مع شخصية صدام حسين المتأثرة بتكوينه العقائدي وطموحاته إلى دور إقليمي يراه مبارك على حساب مصر (هيكل ص 334)، وكانت وزارة الدفاع الأمريكية في تلك الأيام ترصد التحركات العسكرية العراقية، واتّضح فيما بعد أن تقاريرها كانت دقيقة، وكان سفير السعودية في واشنطون الأمير بندر بن سلطان يوضَع في الصورة كما يريدها الأمريكيّون الذين يعرفون وزن ما يقوله الأمير وتأثيره على قرار الرياض، فهو لا ينطق عن الهوى، ومعذرة لسيد المرسلين.
كان العراق يومها يحاول تضميد جراحه الناتجة عن الحرب العراقية الإيرانية التي أخمدت نارها في 1988، وكان من أهم نتائجها الخلل المالي الذي عرفته بلاد الرافدين، والذي بدأ انخفاض أسعار النفط يقوده إلى مرحلة الخطر، وراحت بغداد تحاول تصعيد الموقف لإرهاب من ينتوي التلاعب في قضية النفط، ولعل الرئيس وجد فيما سمعه من «غلاسبي» سفيرة واشنطون في بغداد ما يُطمئنه إلى النتائج، وغلاسبي لم تكن أيضا تنطق عن الهوى، وكل هذا يفسر سبب استعمال تعبير «الفخ» لما حدث.
ويرى هيكل أنّ الغزو الكامل لم يكن واردا في ذهن صانع القرار العراقي، ويستدلّ على ذلك بما قاله الرئيس صدام للرئيس مبارك بأن لا ينوي غزو الكويت، مصحوبا برجاءِ ألا يُبلّغ الكويتيين بذلك، لكن مبارك، لسبب ما، طمئن الكويتيين، ودفعهم هذا، تماما كما توقع صدام برجائه لمبارك، إلى التشدد أكثر، وهنا قرر الرئيس العراقي أن يمارس، هو أيضا، سياسة حافة الهاوية، وكان المشكل الحقيقي أن هذه السياسة ليست لعبة شطرنج تنتهي عند «كِشْ ملك».
ويحدث الغزو في 2 أغسطس وندينه جميعا، ويتداعى وزراء الخارجية العرب إلى اللقاء في القاهرة يوم 4 أغسطس.
وكانت الجامعة، والتي كانت تُسيّرُ، نظريا، من قبل أمينها العام الشاذلي القليبي، مطالبةً بحصر نطاق الأزمة قدر ما تستطيع، حتى بإعطاء الانسحاب العراقي الحتمي غطاء ديبلوماسيا يسمح له بالخروج من الكويت بدون إبطاء، وبدون إحراج إذا كان ذلك ممكنا، وبغير ضرورة على أن يفقد صدام أو غير صدام ماء الوجه.
لكن الإرادة الأمريكية للقيام بالحرب كانت طاغية، وفرضت نفسها على قيادات عربية، مؤكدة بأنّنا دخلنا في العهد الذي كان الرئيس هواري بو مدين يُطلق عليه : السلام الأمريكي (Paxa Americana).
ويرى هيكل أن تطور الأحداث يثبت بأنّ انسحاب صدام كان هو آخر المطلوب، فالرئيس بوش استقر رأيه على (..) التدخل العسكري المباشر (..) وكان شرط النجاح وجود قاعدة لحشد القوات، وهذه القاعدة لا يمكن إلا أن تكون السعودية (..) ولا بد من ترتيبات خاصة يتحمل بمقتضاها العرب المنتجون للبترول تكاليف الخطة العسكرية، (وهكذا) بدأ الرئيس بوش الأب يتصرف كرجل واتته فرصته التاريخية، ولم يعد يتحدث عن الكويت وحدها ولكنه بدأ يتحدث عن تسوية شاملة للأوضاع في الشرق الأوسط، وعن دور تتمكن فيه الولايات المتحدة من قيادة العالم.
وأصبح أهم ما يحرص عليه الرئيس الأمريكي أن ينتزع من عاهل المملكة العربية الملك فهد «طلبا» واضحا يستنجد بالقوات الأمريكية ليكون ذلك مبررا لانطلاق القوات الأمريكية من قاعدة في السعودية، وهو الشرط الرئيسي لنجاح الغزو عسكريا ولتبريره سياسيا.
ويقول بوش للملك حسين بحِدّة، وهو يعرف أن ما سيقوله سيُنقل إلى الرياض، بأنّ: الولايات المتحدة سوف تتصرّف وحدها إذا لزم الأمر، وهي «حِدّة» تذكر بحدة كارتر مع السادات في كامب دافيد عندما لوّح الرئيس المصري بالانسحاب، ومن المؤكد أن حدّة بوش كانت ستتراجع لو ووجه بموقف عربي صلب وبجامعة عربية تتحدث بكل ثقة باسم العرب من المحيط إلى المحيط.
ويقوم الأمير بندر بدوره المطلوب منه فيؤكد للأمير تركي الفيصل، ابن عمّه ومدير المخابرات السعودية، تقدم قوات عراقية في المنطقة المحايدة بين العراق والسعودية، وهو ما لم يكن صحيحا على الإطلاق، ويقول له إن الذي يُفطر بالكويت لا بد له أن يتغدّى بشيء آخر (وواضح ما هو الشيء الآخر).
ويلتقي صدام بالملك الهاشمي ويقول له أنه اتخذ قراره بالانسحاب (..) لكن هناك شرطا واحدا، وهو ألاّ يتخذ وزراء الخارجية العرب الذين سوف يجتمعون في القاهرة قرار مسيئا أو عنيفا ضد العراق، وهنا تبدو نُذُرِ الدور السلبي للرئيس المصري.
ففي الرابعة والنصف مساء من مساء الرابع من أغسطس، وقبل أن يعقد اجتماع وزراء الخارجية على السادسة، تصدر مصر بيانا منفردا بإدانة العراق، ويُصدم الملك حسين بما حدث، لأنه كان إفشالا واضحا لقمة جدّة المصغرة في 31 يوليو والتي وافق عليها صدام (وكانت القوات العراقية عثرت في قصر أمير الكويت بعد الغزو على خطاب يتعلق باجتماع جدة يحمل تأشيرة للأمير جابر تقول: نحضر الاجتماع بنفس شروطنا المتفق عليها، والأهم بالنسبة لنا مصالحنا الوطنية (..) السعوديون يريدون إضعافنا (..) والعراقيون يريدون تعويض حربهم من حساباتنا، لا هذا يحصل ولا ذاك، وهو رأي أصدقائنا في مصر وواشنطون ولندن (؟؟!!) نحن أقوى ممّا يتصوّرون).
لكن أكبر عقبة كانت تواجه بوش لم تكن تحركات الملك حسين وإنما حاجة السعودية لغطاء عربي أو إسلامي، أو الاثنين معا، لتتمكّن من طلب قوات «غير مسلمة» تحل بالمملكة، وهكذا عاد بوش لممارسة ديبلوماسية التيليفون (هيكل ص 405) بينما راح الأمير بندر في السعودية يدفع نحو استشارة رجال الدين حول وجود الأمريكيين في السعودية، وأمّتنا لا تفتقد علماء السلطان.
ويوافق مبارك على إرسال القوات الأمريكية للسعودية بعد أن اتّصل به كل من بوش والملك فهد، ويبدي الملك الحسن استعداده على الفور لإرسال قوات إلى السعودية (ص 413)، وتتّجه الأنظار إلى القاهرة حيث بدأ الإعداد لعقد قمة عربية غير عادية.
ملحوظة: اعتمدت على رواية الأستاذ هيكل لأنّها الرواية العربية الوحيدة التي سجّلها شاهد عاش الأحداث، وعايشها عن قرب.
يتبع