طباعة هذه الصفحة

قراءة نقدية

رقص البجع ورسائل الدم والنار

قراءة: فايزة زاد

في روايـة: «قصر الصنوبـر» للكاتبة إلهام بـورابـة



يا عيني نوحي.. وأنا أفرد أذرع فكري لهطول السرد الشاعري قلت بين أوجاعها يا عيني نوحي، إن هذه الرواية التي ترتدي ثوب القصيدة النثرية تدفع ساقيَ بشغف لاكتشاف كل بؤر النزيف.. ليس عليَ أن أجيء دار الأيتام في وجه فضيلة أو نورا لأسبر أغوار «قصر الصنوبر».
الرواية المتفردة التي جمعت فنيات السرد الجيد والحبكة الذكية لخوالج الكاتبة إلهام بورابة والتي جاءت متسلسلة الأحداث، وهي تتنقل شارحة مآسي شخوصها، معرية وفاضحة كل الأسباب التي نحتت ندوب الجزائريين والجزائريات على الخصوص، وعلى مدى أزيد من قرنين.. الرواية التي قدمت فضيلة (الفضيلة) الزائرة لقصر الصنوبر لتٌشَرِّح جسده المنهك.. لترّمم قلوب وأرواح عابريه المتآكلة بفعل الزمن، منذ البيت الصالح والعبيد إلى عطر ونسائم الربيع العربي..
إلهام بورابة، الشاعرة والقاصة والمختصة في علم النفس والأم والابنة والحفيدة لكل هذا الإرث الجزائري الممتد بين جهات الوطن المختلفة، وفي عمر الاستعمار بمختلف مسمياته التركي والفرنسي والإرهابي الذي حاول النيل من هذا الوطن بضرب مقدساته وأهم هذه المقدسات كانت المرأة أولى
ضحاياه وأهمها.. عندما يدخل أي محتل أراضيك من المؤكد أنه سيضربك في أهم بنائك ليحطمك ويلغيك.. من المؤكد أنه سيضرب الدين فيك واللغة والمرأة.. وهكذا جاءت رواية قصر الصنوبر بحبكة ذكية ومرفقة برقصة باليه ساحرة تجرعنا مآسينا قطرة قطرة ..
يا عيني نوحي .. كان على الرواية أن تقدم لنا تاريخ البطلة الممتد في اليتم كي نستوعب مآسيها ويتمها كان على الحكاية المرّة أن تتكرر وتكون إرثا غارقا في البدائية حيث كان المستعمر الأول (التركي) يلون غوصه وذوبانه فينا فيتزوجنا ويتبنانا ويصنع عطاءاته لنا من نسج جماجمنا ... أما هذا المستعمر الثاني( الفرنسي) الجديد الذي جاء باسم الحرية، فهو مجرد تطوير لليد الضاربة فينا دون رحمة. فزيادة الى حرق القرى والتهجير والقتل حيث خرجت البطلة من قريتها المحروقة رفقة أخت وحيدة لتكونا حكاية مكرّرة لحكاية الجدة التي تبنتها أسرة تركية تدعى باش دزيري الى رقمين في طابور اليتم الطويل الذي صنع الشخوص الكثيرة للرواية، الزهراء وخداوج ورهواجة وفاطمة ومُسَيرة القصر ماري.. وكيف وصلنا لتشكيل هذه الباقة الزهرية من نساء ذابلات حد التقليد لسُكْرِ البجع، لولا بتر جذور الإنسانية فيهن، لولا قتل الوطنية فيهن لولا ذبح الهوية بالحرق والاغتصاب.
شرف النسوة .. نخوة الجزائر وعزّتها
الجندي الفرنسي لا يكتفي بإضرام نيران الإبادة لطمس حضورنا في تلك الطين الرؤوم. فقد جاءت الراوية لتحكي أوجاع الفتيات المغتصبات الشرف والأبوّة والأمومة.. كانت تحكي ودون أن تصرّح أن هذه الظروف صنعت منها امرأة قاسية استسلمت للحياة الجديدة حتى لو أصبحت من صنع فرنسي، إذ أصبحت تجيد الطرز والخياطة وصنع الحلويات والحديث بالفرنسة، فلم يعد يضيرها أي جرح جديد حتى لو بترت هذه المرة أختها من خاصرتها، أو ربما لأن أختها فاطمة مجرد رمز ورقم في سلسلة طويلة من نساء جزائريات مررن عبر القصر أو لم تتح لهن الفرصة للمرور.
الراوية أو الكاتبة تدرك أن السفر عبر نوتات الباليه الى بلد يجيد الاستمتاع بأوجاعها أسلم لهن حتى لو كانت أيدي خائنة تهجرهن وتجيد العبث بمصيرهن.. وما ذنبهن حتى يحملهن الإرهاب المستعمر الثالث لسفوح شرفهن جريرة الغير، تعدد الراوية أوجاع الفتيات المسلوبات الأبوة وتمنح نفسها أمل البقاء، أمل الجزائريين ذوي أصول ضاربة في التاريخ، فتسمي اسم والدها الجزائري العربي معلنة أنها ليست نتيجة نطفة فرنسية قذرة في رحم أمها، كما بعضهن، وبطريقة ذكية تقدم الكاتبة للقارئ، الأب كرمز قوي للحياة حيث لم تُمِتْهُ مثلما أعدمت حضور الأم في جرم إنساني كان محور الحكاية والذي امتد حتى فترة التسعينات، وهي تشهد نساء مغتصبات يخيرن مصائرهن بين المواخير أو الضياع بين القرى والجبال مطاردات بجرم الذل والخيانة الوطنية.
قصر الصنوبر الذي صنع راحتهن النفسية المؤقتة، ترك بصماته فيهن وأخذن عطره في رحلاتهن وترحالهن، أخذن ملامحه وهن يتنقلن بين المخيمات، بين عنابة والمهجر، وأخذن معهن ذلك الوفاء الذي صنعته ماري بزرعها فيهن المحبة لله، فاعتقدن أنهن سلخن عن جلودهن لكنه الإسلام رابض في صدورهن كما الوطن الذي عادت نسائمه تهب مع نسائم الربيع العربي وثورات الزهور، هي فرصة للبطلة ربما لترمّم قلبها وتحل ألغاز الحكايات التي سكنت القصر معها، إحداها أنها جاءتها أخبار أختها بعد سنوات طويلة في شكل رقصة حزينة للبجعة المهاجرة...
القفز على التاريخ دون حرق عنصر المفاجأة
 الرواية جاءت متسلسلة قدمت المراحل دون أن تقفز على التاريخ ودون أن تحرق عنصر المفاجئة، كما استعملت الرموز القوية للوطن والأنوثة والحريات والطواغيت، رواية كتبت في مائة وأربعة عشر صفحة واختزلت حكايات كثيرة بذكاء كان يمكن أن لا تكفيها مئات الصفحات، لولا أن الكاتبة أستاذة في علم النفس وشاعرة وقاصة استعملت أسلوب القصة القصيرة جدا وقدمت أحداثا مضغوطة بأسلوب التلغيز والمفارقة، فالحريق الاستعماري الذي يمنح الموت بيد يمنح الحياة لساكنات قصر الصنوبر، الأم والنساء المغتالات في الحكاية، تحييهن رقصة باليه منبعثة في أسلوب فني عالمي.. اللغة الشاعرية للنص منحت جمال الرواية ورونقها إذ الأسلوب السردي المتمكن من اللغة يشد القارئ للتمعن والإبحار في تفاصيل الحكاية .. أما تعدد الشخوص الذي قد يعاب على النص ويتهم على أنه يتوه القارئ فهو مجرد فخ الكاتبة للإشارة إلى أن طابور النساء المغتصبات الشرف والأهل والتاريخ والوطن طويل لا تكفيه رقصة بجع واحدة أرجلها غارقة في طين الجزائر العميقة، تحية للكاتبة الروائية إلهام بورابة التي صنعت كل هذا التنوع بين السرد والحدث وصنعت قصرا للبهاء.