يغوص الباحث الدكتور محمد العربي ولد خليفة من خلال هذه الدراسة التحليلية القيمة في أعماق ما أعتبره بـ « الحراك الشعبي وملامح المستقبل».
ويصف الدكتور محمد العربي ولد خليفة «الحراك» بالصحوة الشعبية واسعة النطاق، وعنوان انطلاقة من صنع جزائري محض في سيرورته وأشكال تنظمه مع الإشارة إلى دور المؤسسة العسكرية الحارس الأمين لكيان الدولة ورموزها السيادية.
ومن بين هذه التحوّلات بداية التقليل من الفروق بين الأبناء في العائلة وفي المجتمع بوجه عام على أساس الجنس (ذكور - إناث gender) وإن بقيت اٌتجاهات أخرى سائدة في الأوساط المحافظة، وتتعلق بالشرف العائلي وواجب حماية الإناث من المهد إلى اللّحد ، وهذه الاٌتجاهات لا تتغيّر بتعليمات فوقية ولا عن طريق الحركات المعروفة بالنسوية (Féminisme) فالتغير هو أساس عملية ثقافية تربوية، وبتأثير المحيط العالمي الذي لم يعد خارجيا بحكم وسائل الاٌتصال التي تدخل البيوت بدون اٌستئذان، والسفر إلى الخارج وأفلام ومسلسلات هوليود وبوليود وما تقدمه من نماذج الحياة الجذابة التي لا تمثل كل الحياة، كما هي في الواقع.
إنّ النشر الأفقي للتعليم في كلّ ربوع الوطن كان نتيجة للطموح المشروع للشعب الجزائري وإرادة الدولة التي أدركت في وقت مبكّر وأثناء الحرب أنّ تأطير الدولة وبناء المستقبل يبدأ بتكوين الكفاءات المدنية والعسكرية وبذلت جهودا كبيرة لقبول العديد من البعثات لدى الدول الصديقة والمتعاطفة مع كفاح الشعب الجزائري في الشرق والغرب بما فيه فرنسا التي تمكّنت قلّة من الشباب في الانخراط في مدارسها ومعاهدها، ومنهم الكثير ممن كانوا تحت الحراسة أو تعرّضوا للاٌعتقال والإبعاد.
إنّ الهدف من الإشارات السريعة السابقة، هو التأكيد على أنّ بناء الجزائر الجديدة لا يعني محو كلّ ما حققته الجزائر في ماضيها القريب والبعيد لصالح الشعب، فكلّ النجاحات التي تحقّقت وخاصة إذا أضافت للدّولة والوطن قوّة ومكانة، ينبغي تدعيمها وإثراؤها، وإلا وجدنا بلادنا تدور في حلقة مفرغة من الهدم والبناء أو في نقطة الصفر، كما تمثّلها أسطورة سيزيف في الميثولوجيا اليونانية القديمة.
هناك قضايا مطروحة في قطاع التربية والتكوين يدور حولها الجدل من منطلقات علمية وأحيانا من مواقف إيديولوجية تعرّفنا على بعضها عندما كنّا على رأس وزارة قبل سنوات، وبطريقة مباشرة أكثر عندما كنّا من المدرّسين لعدّة سنوات في جامعتي الجزائر العاصمة، ووهران، نذكر من بين هذه القضايا:
مسألة الكمّ والكيف حيث يرى البعض أن ضعف المستوى والإخفاق والتسرّب المدرسي وعدم استجابة التكوين لما يتطلّبه سوق التشغيل يعود أساسا إلى تضخيم عدد التلاميذ والطلبة في الأقسام ومدرّجات الجامعات، ولذلك يرى البعض أنّ الحلّ يكمن في تشديد معايير الانتقاء للعبور من مرحلة تعليميّة إلى أخرى، ويرى الليبراليون المتشدّدون أنّ الحل هو أنّ المدرسة والجامعة لمن استطاع إليهما سبيلا ومجانية التعليم هو المشكلة والبداية تكون بخوصصة جزئية أو كليّة للتربية والتكوين وعلى الأقلّ المرحلة الجامعيّة، أمّا المراحل السابقة فقد انتشرت فيها خوصصة مقنّعة نسميها تكميلية لأنّها غالبا ما تستعمل امكانيات المدارس والثانويات علنا أو خفية، بطريقة أشبه بالسوق الموازية في قطاع التجارة.
من المرجح أن خوصصة التعليم قبل الجامعي لن يكون من توجهات الجزائر الجديدة التي عانى فيها الآباء والأجداد من الإقصاء والتجهيل أثناء حقبة الاحتلال الكولونيالي المظلمة، ومن الثابت أن الجهل والأمية من الأمراض المزمنة المؤدية للتخلف والعجز عن الحضور في السّباق بين الأمم قديما وحديثا.
كما أنّ تخلّي الدّولة عن هذا القطاع الحساس سيؤدي حتما إلى اقتصار خدماته التعليمية والتربوية على فئة أو لنقل طبقة تحتكر المال والجاه على حساب نسبة عالية من المواطنين الآخرين الذين يعتقدون أن تمدرس أبنائهم ذكورا وإناثا أحد الحقوق الأساسية التي التزمت بها الدّولة منذ استرجعت الجزائر حريتها واستقلالها.
أمّا القطاع ما بعد الجامعي فإنّ هناك عدّة أشكال من الاستثمارات من بينها تكثيف التبادل بين جامعاتنا ومثيلاتها المعروفة بالتفوّق والامتياز في مجالات البحث العلمي والابتكار، وإنشاء شبكة من العلاقات العلميّة مع المخابر الرائدة في العالم في الشرق والغرب المعروفة في مجالات المعرفة الخاصة بالعلوم الصحيحة والعلوم الانسانية والاجتماعية وتكنولوجيات المقدمة
Technologies de pointe ودراسة النتائج التي أسفرت عنها تجارب الجامعات التي أقيمت في بعض بلدان المنطقة (لبنان، مصر على سبيل المثال) وما أضافته من معرفة ومناهج وتقدم في مختلف مجالات التنمية الوطنية بدون أن تكون محطات للرصد والتوجيه وتكوين النخب الموالية لسياسات أجنبيّة، ولو كانت ضدّ بلدانهم.
إنّ التقدّم في العلوم والتكنولوجيات حالة كلية، أي أنّ التقدّم في أي مجال منها يفيد مردوده في المجالات الأخرى، وليس صحيحا أن الجزائر في حاجة فقط للعلوم الصحيحة ولا حاجة لها بالعلوم الانسانية والاجتماعية إنّها في الحقيقة محتاجة لتطوير البحث وابتكار المناهج الجديدة فيها كلّها، إنّ التخلّف في علوم الإنسان والمجتمع لا يقلّ عن التخلّف في غيرها، فأغلب النظريات الكبرى في العلوم الإنسانية والاجتماعية ومنها التاريخ والاقتصاد والسياسة إلخ... محصورة في جامعات ومراكز البحث في البلدان التي تطوّر فيها البحث والتنظير في العلوم الصحيحة والانسانية جنبا إلى جنب مع علوم الانسان والمجتمع، فالرياضيات هي العلم الأداتي فيها جميعا.
أما مسألة لغة التعليم أشرنا إلى بعض جوانبها في علاقتها بالهويّة وفي سياق المنافسات السياسية، ولعله من المفيد أن نشير إلى أنّ الصّراع الحقيقي يدور بين اللّغتين العربية والفرنسيّة وليس أساسا مع اللغة الأمازيغية، بما فيه الفصل في اختيار الأبجدية التي تكتب بها، ولذلك دوافع ترجع إلى مخيال مزدوج عن فرنسا ومركب من وجهين أولهما فرنسا قوّة بطش واضطهاد وفرنسا الممثلة للحداثة والقيم المعلنة عن الحريّة والديموقراطية باعتبارها واجهة جذابة.
إنّ الدعوة إلى الاستبدال الفوري للغة الفرنسية بلغات أخرى مثل الانكليزية والصينية والروسية وحتى التركية هو ضرب من أحلام اليقظة في الأمد المنظور، وبالتالي يمكن التمهيد لذلك على مراحل والبداية باللغة التي تمثّل قيمة مضافة حقيقية وهي اللّغة الاٌنكليزية التي اكتسحت العالم، وهي الأولى بلا منافس في كلّ مجالات البحث العلمي الذي تنشر خلاصاتها Summary بالانكليزية في كل جامعات العالم وتسيطر على المؤسسات الاقتصادية وما يتعلّق بالتجارة والتسويق (Marketing).
خلاصــــة
عرفت الجزائر خلال مختلف مراحل تاريخها محنا وامتحانات كثيرة بعضها كان في مواجهة العدوان الخارجي، وبعضها الآخر بسبب صراعات داخلية حول القيادة على مستوى الأحزاب والمؤسسات، وباستثناء الالتفاف الواسع والقريب من الإجماع حول الجبهة وجيش التحرير الوطني أثناء الثورة، فإنّ الاجتهادات والاختلافات الأخرى كانت تقدّم أطروحات يتبناها البعض ويرفضها البعض الآخر قبل التعدّدية وبعدها.
نحن في حاجة إلى استقراء ودراسات علميّة لكلّ مراحل الماضي بدون تضخيم أو تصغير أو انتقائية من التاريخ العام للجزائر أو لمرحلة واحدة تستوعب كلّ الماضي أو تنسب لتوجيهات سياسية معينة، ومن الطبيعي أن تتعدّد فيها المدارس والاجتهادات في المناهج والخلاصات التي تثري الجذع المشترك للوطنيّة الجزائريّة عبر العصور، ومن هذا المنطلق فإنّ للجزائر مجتمعا أولا ودولة ثانيا تاريخ واحد لا يخصّ جهة ولا فردا يكون البداية والنّهاية في مسيرة بلادنا، وإن كان للقيادات كما يقول كارلايل بصمات جديرة بالاهتمام بحكم دورها الرائد وما تتميّز به من كارزمية، وقد يظهر في المستقبل علماء يدرسون تاريخ بلدان أخرى في جوارنا الإفريقي وغرب المتوسط وغيرهما من بلاد العالم، فإذا كان من غير الممكن منع الآخرين من البحث في تاريخنا وهم كثيرون جدا، فلا أحد يمنعنا من الاهتمام بماضي الآخرين.
لقد كان الهدف الأكبر للأغلبيّة الساحقة من المشاركين في الحراك الشعبي هو رفض وضعيّة أضرّت بالجزائر في تسيير شؤونها الداخلية وقلّلت من مكانتها على المسرح الجهوي والدّولي، وهذه الأعراض لا علاقة لها بما تتمتّع به بلادنا من مقوّمات وإمكانيات معنويّة ومادية، أو لنقل سيرة ذاتية (C.V) تميّزها في محيطها الجهوي والدّولي.
لقد كانت تلك الجموع المشاركة في الحراك تطالب بما سماه المفكّر الأمريكي من أصول فلسطينية إدوارد سعيد مع زميله ف.سليمان بالبحث عن البديل الأفضل بعد معرفة أسباب الخلل أي تشخيص صحيح لما تعانيه المنطقة العربية من عجز وفشل كبدها مجتمعة ومنفردة خسائر فادحة
E.Said & F.Suliman : The Arabs today the alternative for tomorrow O.H 1973.
هذا البديل الأفضل بالنسبة لبلادنا يتمثل في استكمال المسار الديموقراطي، وامتحانه الحقيقي هو الانتخابات التي تحترم قواعد التنافس والخالية من الشوائب التي أفقدتها الكثير من مصداقيتها في مواعيد سابقة، وقد حرصت اللّجنة المستقلّة رئيسا وأعضاء على حمايتها من الذباب الطفيلي والذئاب المتربّصة وفي مرحلة العبور الصّعبة كان الجيش الوطني الشعبي العين الساهرة على وحدة الشعب وحرمة حدوده حتى المحطّة المنشودة وهي الانتخابات الرئاسية، لقد تعهّد أن يبقى وفيا لأمجاد جيش التحرير الوطني وشهدائه العظام.
في العلاقة بين المؤسّسة العسكرية وبقية المؤسّسات ينبغي التذكير ببديهيات أولية Tautologies وهي: أنه لا وجود لوطن بلا شعب ولا وجود لشعب ووطن بدون جيش للدفاع عنهما معا ونجد تـهما في حالة التعرض للخطر، وإلى جانب الجيش فإنّ على المكلّفين بالسهر على الأمن القيام بواجباتهم الضرورية في الريف والمدينة في إطار قوانين الجمهورية ورقابة المنظمات المختصّة في حقوق المواطنة التي لا تخضع للتحريك والاستخدام من جهات تحرّض بالمال والإعلام من الخارج.
أمام الجزائر الآن قائمة طويلة من الورشات تتساوى في الأولوية والأهمية أشرنا إلى بعضها فيما سبق، ظهرت مؤشراتها في الخطاب الافتتاحي الذي بدأت به ملامح الجزائر الجديدة، وهو ما يبشّر بالإقلاع في الاتجاه الصحيح، وخاصة إذا نجح الوطنيون وهم كثيرون، ولا شكّ أنّ منهم من يحبّ الجزائر بطريقته ولتقصير المسافة وربح الوقت الثمين فإنّه من المفيد الرّجوع إلى الوصفة التي تقترحها الفيلسوفة إلزبيل ستنجر I.Stengers في دراستها بعنوان: إعادة تنشيط الحس الجماعي، الحد من التفكير الدّائري
Réactiver le sens commun,
les empêcheurs de penser en rond, découverte, paris 2020.
والحسّ الجماعي في بلادنا متجذّر في التعلّق بثلاثي الحريّة والعدالة والتقدّم، الداخل فيها مولود من أبنائها والخارج عنها تائه بلا مقرّ ولا عنوان (SDF).
في الكلمات السّابقة تعبير عن قناعات لم تتأثّر بلون اللّباس وعناوين المسؤولية التي لم يطلبها الكاتب أبدا لا سرّا ولا علنا، وكان جهاز الوقاية من ما يطرأ عليها من انحراف هو الحذر من الإغراء و الإغواء.
الحلـقة 5 والأخيرة