طباعة هذه الصفحة

بشأن وثيقة التعديل الدستوري، الدكتور دنيس عبد القادر:

وضع المسودة للإثراء دليل على عدم استئثار اللجنة بكل المقترحات

حاورته: براهمية مسعودة

 تعزيز الديمقراطية وتفعيل مبادئ الحكم الراشد جديد المشروع

تضم مسودة المشروع التمهيدي لتعديل الدستور في بعض محاورها إعطاء رؤية وتوجه جديدين نحو تعزيز الديمقراطية وتفعيل آليات الرقابة وتجسيد الحكم الراشد من خلال جملة من المقترحات، أبرزها دسترة السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، وانطلاقا من ذلك اتصلت جريدة «الشعب» بالدكتور «دنيس عبد القادر» أستاذ القانون العام بالمركز الجامعي «نور البشير» بالبيض، فكان لها معه هذا الحوار الذي يسلط الضوء على نقاط جوهرية تطرحها المسودة.
استهل الدكتور «دنيس»، تدخله بمقولة شهيرة للفقيه «مونتسكيو»،  تختزل الكثير من الرؤى والأفكار المؤثرة، جاء فيها: «في بعض الحالات يصيرُ لِزاماً تغيّر بعض الدساتير، وعندما يحدث ذلك، يجب أن نفعل ذلك بأياد مُرتعشة»، ثم تطرق إلى العديد من المحاور والنقاط المهمة نحو صياغة دستور الجمهورية الجديد.

دسترة السلطة الوطنية للانتخابات

-  ما تقييمكم لما جاء في مسودة تعديل الدستور وبالخصوص الباب الرابع المتعلّق بمؤسسات الرقابة تحت الفصل الثالث: السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات ؟
 إنّ المسودة المعروضة للمناقشة والتّشاور مع مختلف شرائح وأطياف المجتمع، تأتي كتبرئة ذمة وتجسيدا للتعهّد الذي قطعه رئيس الجمهورية ضمن برنامجه الانتخابي الذي ارتكز على 52 نقطة، جاء في مقدمتها:» أنه سيسعى من أجل مراجعة واسعة للدستور، يكرّس من خلاله الديمقراطية، يؤسس لفصل حقيقي بين السلطات، يعزّز الصلاحيات الرقابية للبرلمان، يسمح بعمل متناغم للمؤسسات، يحمي أكثر فأكثر الحقوق والحريات، يجنّب البلاد أيّ مظهر من مظاهر الحكم الفردي، يكرس حرمة وإلزامية تحديد عهدة الرئيس قابلة للتجديد مرة واحدة متتاليتين أو منفصلتين، إلى جانب تعهدات أخرى ضمن إصلاح تشريعي، يستهدف إعادة صياغة الإطار القانوني المنظّم للانتخابات، أخلقة الحياة العامة والسياسية، تعزيز الحكم الراشد وإصلاح شامل لقطاع العدالة».
وأقول إنه بالرغم من ملاحظاتنا العديدة حول منهجية إعداد وبناء الدساتير المنتهجة عالمياً، فإنّ المجهود والاجتهاد الخلاّق للجنة الخبراء الموقّرة التي أوكل إليها الرئيس مهمّة مراجعة الدستور في إبراز بعض النّقاط وترك أخرى، كان بدون شكّ الغرض منه فتح المجال لكل الفواعل الرسمية وغير الرسمية، السياسية وغير السياسية للمشاركة الفاعلة في الإثراء، وكذا تبيان أنّ اللجنة لم تستأثر بكل المقترحات ضمن المشروع التمهيدي لتعديل الدستور، وهذا في حدّ ذاته تكتيك، ينمّ على مبدأ المشاركة والإسهام الديمقراطي للجميع.
وبفضل هذه المقاربة التشاركية يكون منسق اللجنة، قد تلقّى أكثر من 1500 مقترح من أحزاب وجمعيات طلابية وشخصيات أكاديمية وجمعيات مجتمع مدني ناشطة - حسب - المكلف بمهمة برئاسة الجمهورية لعقاب محمد إذ لا يغيب على المختصين أنّ تركيز العمل ضمن لجنة واحدة وضيق الوقت، إضافة إلى الظرف الطارئ الصحي بتباعد أعضاء اللجنة، ساهم وأثّر إلى حدّ ما في عملها، وكان من الأفضل تقسيم العمل إلى ورشات حسب الأبواب وهي لجان موضوعاتية، ثم تأتي لجنة التنسيق والصياغة، ثم أخيراً لجنة الخبراء التي يكون عملها تلخيصيا وقانونيا محضا.
ويمكن القول إن المعنيين وضعوا هندسة جديدة، مسّت دستور 1996 المعدّل والمتمّم في 2016؛ فمن حيث الشكل وبعد أن كان يتضمن ديباجة تتكون من 21 فقرة و218 مادة في الموضوع، أصبح يتضمن ديباجة تتكون من 28 فقرة و240 مادة، أما من حيث المضمون فهو مشروع دستور قائم على دعائم متعّددة تكرّس الطابع -شبه الرئاسي المكيّف- كنظام للحكم يحرّر رئيس الجمهورية من الأعباء الحكومية، مع بروز القطب الثاني في السلطة التنفيذية المتمثل في رئيس الحكومة.
كما تأثر بالعوامل الأساسية التي تميّز دساتير الألفية الثالثة من خلال تقوية الحكامة وأخلقة الحياة العامة، دعم دولة القانون والحريات، وكذا دعم القضاء الدستوري (لضمان سمو الدستور) وتوازن السلطات وضمان استقرار المؤسسات الدستورية خلال فترة الأزمات الدستورية والظروف الاستثنائية.

أخلقة الحياة العامة ودعم مصداقية الانتخابات

-  إلى أي مدى يمكن للمقترحات أن تجسّد الحكم الراشد وتعزز الديمقراطية والرقابة على الانتخابات من خلال دسترة السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات؟
 بالفعل، كما جاء في عرض الأسباب أو ما يسمى بالأعمال التحضيرية التي أُرفِقت مع المشروع التمهيدي قالت لجنة الخبراء: إن أخلقة الحياة العامة تكتسي أهمية بالغة عند الرأي العام، بالنّظر إلى الانحرافات التي عرفتها عملية تسيير الشؤون العامة في السنوات الأخيرة، جعل المؤسس الدستوري يراجع مؤسّسة بعض الهيئات الرقابية التي سخّرها لحماية الديمقراطية.
إنّ التّعاطي مع موضوع الانتخابات يجب أن يُحاط بكثير من الآليات المستحدثة، فالحديث على الانتخابات الحرّة، الشفافة والنّزيهة، وفق المعايير الدولية المطلوبة، يُعدّ أحد متطلبات دولة القانون وإرساء الحكم الراشد، وليس بخافٍ أنّ متطلبات هذه الأخيرة، هي الحاجة إلى جهاز قانوني عادل وفعّال، ولأنّ الحكم لا يقوم سليماً في أيّ بلد إن لم يكن مرتكزاً على سلطة أوهيئة يُوكل إليها تحضير، تنظيم، ومراقبة والإشراف على الانتخابات وفق المعايير الديمقراطية، إذ يجد البحث في التجارب المقارنة المبتكرة في إدارة العمليات الانتخابية نماذج عِدّة فرضتها الخيارات الديمقراطية والسياسية.
وبالرغم من أنّه لا يوجد نموذج مثالي، غير أنّ خبراء البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة المعد سنة 2004 UNDP، يعتمدون على طرح معايير مشتركة، تتمثّل في التكوين البشري للجان وأنماطها، الطبيعة القانونية لهذه اللّجان، وأخيرا حكامتها ومكانتها فيما بين المؤسسات الرقابية الأخرى، حيث نجد أنّ ثمّةَ ثلاثة أشكال عالمية في إدارة العملية الانتخابية فإما إدارة حكومية (وزارة الداخلية) أوإدارة انتخابية مستقلة، وإمّا إدارة انتخابية مختلطة.
ولقد عرفت التجارب الجزائرية نماذج مختلفة، ففي بادئ الأمر كانت الجزائر تعتمد على إدارة وتنظيم الانتخابات من طرف الإدارة، وهي من تشكل لجان الرقابة تديرها بصفة مباشرة أوغير مباشرة وزارة الداخلية بمناسبة التّحول السياسي الذي أعقب أحداث أكتوبر 1988، وشيئاً فشيئاً نشأت لجان وطنية لمراقبة الانتخابات، ولدت من رحم السلطة التنفيذية ذات طابع إداري، ثم أصبحت مختلطة، وهو الأمر الذي غيّر من تسميّتها في المرسوم الرئاسي 95-269، وبمرور الوقت ونظراً لتجاذبات الحقل السياسي أصبحت هذه اللجنة ذات طبيعة سياسية بحتة، ظهر ذلك على تسميتها، وبالتالي ترسّخت بصفة تدريجية لجان سياسية مشكلة من الشركاء السياسيين المشاركين في الاستحقاق.
وبسبب الاتهام الأبدي الذي ظل لصيقاً بالإدارة ممثلة في وزارة الداخلية، ما أدى إلى استعادة الأحزاب والمجتمع المدني كطرف أصيل في المعادلة الانتخابية، ثم ظهرت إلى الوجود إلى جانب اللجان السياسية ما يسمى اللجنة الوطنية للإشراف على الانتخابات في سنة 2014 التي تتكوّن صرفاً من السادة القضاة، إلى غاية التعديل الدستوري لسنة 2016 الذي نصّ على استحداث هيئة عليا مستقلة لمراقبة الانتخابات ذات اختصاصات محدودة من خلال المادة 194 كآلية دستورية لأول مرة بعدما كانت تستحدث اللجان السابقة بموجب مراسيم، تتكون بشكل متساو من قضاة يقترحهم المجلس الأعلى للقضاء ويعينهم رئيس الجمهورية، وكفاءات مستقلة يختارهم المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي التي تم إنهاء مهام أعضائها بموجب قرار سياسي تعسفي من طرف القوة غير الدستورية آنذاك بسبب تكييف قانوني صرح به رئيسها على وجوب إيداع ملف الترشيح من طرف المترشح شخصياً، والتي لم ينشر قبل ذلك تقريرها النهائي لتشريعيات 2017.
فيما ظلت قائمة هيكليا بموجب القانون العضوي 16-11 إلى غاية إنشاء السلطة الوطنية التي حلّت محلّها مع صلاحيات موسّعة جمعت صلاحيات شاملة، وتمّ سحب صلاحية التحضير والتنظيم من وزارتي الداخلية والخارجية وصلاحية الرقابة من الهيئة المحلّة، وكذا ترتيب بعض الصلاحيات الأخرى المختلفة بينها وبين القضاء والمجلس الدستوري.
إنّ السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات تأتي كفصل من فصول الإصلاح السياسي، وهي مرحلة جنينية متقدّمة لمختلف الآليات التي ظهرت منذ اعتناق الجزائر للتعددية السياسية في دستور 1989 التي ذكرناها بمنظور إصلاحي تدرجي ظلّ يسير بخطى حذرة، لكن الرغبة الجامحة وطموح أبناء هذا البلد في وضع آلية تحمي أصواتهم بعيدا عن رغبة النظام فصدر القانون العضوي 19-07، يتعلق بالسلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، كجهاز انبثق عن لجنة الحوار بالتشاور مع بعض الشخصيات من الحراك الشعبي التي مهدت لتسيير المرحلة الانتقالية التي أعقبت الرئاسيات المؤجلة، كما تم تعديل بعض الأحكام الخاصة بنظام الانتخابات بموجب القانون العضوي 19-08.

إرساء الحكم الراشد

-  هل تعتبر دسترة السلطة المستقلة للانتخابات كافية لوضع منظومة متكاملة للإصلاح السياسي الذي دعا إليه رئيس الجمهورية ؟
 في اعتقادي أنّ مسألة دسترة السلطة مهم جداً، لكنه غير كاف، لذلك يجب أن يمسّ الإصلاح كذلك قانون الانتخابات، باعتباره العمود الذي تدور حوله رحـى السلطة في الدولة، وبالتالي الحاجة، كما صرّح بذلك الرئيس ضمن النقطة الثانية من برنامجه الانتخابي بإعادة صياغة الإطار القانوني للانتخابات بتحديد دقيق للمعايير والشروط المطلوبة للمترشحين للانتخابات المحلية أوالوطنية أوالرئاسية، تعزيز قانون الانتخابات بأحكام جديدة جزائية، إصلاح النظام الانتخابي لتوزيع المقاعد في التشريعيات باعتماد نظام التوزيع النسبي للمقاعد داخل الدائرة الانتخابية، فيما يوزع الباقي الأقوى حسب الترتيب الوطني للأصوات المتبقية (يمكن الإعلان عن آلية التوزيع الوطني أواعتماد طريقة سانت لوغو في التشريعيات).
وكما هو مستوحى من مذكرة عرض الأسباب، بتحديد مهام السلطة ليشمل مجمل العمليات الانتخابية تحضيرا وتنظيما مراقبة وإشرافا، وهذا يقتضي إلغاء القانون العضوي للسلطة ودمج أحكامها بالقانون العضوي المنظم للانتخابات، فالمسودة التي ألغت أحكام المادة 194 من الدستور الساري جاءت بـ 6 مواد احتوت على 15 حكما دستوريا يخصّ السلطة، لكن الكثير من الدستوريين يرون أن النموذج الأمثل دولياً لتحضير، تنظيم، مراقبة والإشراف على عملية حساسة كالانتخابات، يتمثل في وضع أكثر من جهاز متدخل في العملية الانتخابية.
والأكيد أن عملية سيادية كهذه ذات بعد دولي تحتاج إلى إعادة النظر فيما تم اعتماده في سنة 2019 بجعل سير العمليات الانتخابية بيد سلطة واحدة، وأنّ الإقتداء بفكرة سلطة تحدّ سلطة تدعونا للتفكير في آليات أكثر نجاعة، تساهم إلى جانب السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات وأنّ حصرها بيد سلطة واحدة تؤدي بنا شيئا فشيئا إلى الاحتكار في مجريات العملية، وأن الاحتكار يؤدي كذلك إلى التعسُف، ومع مرور الوقت نعود لنفس الاتهام الأبدي الذي ظلّ لصيقا بالإدارة وحزب الإدارة كما يسميه البعض، وبالتالي فإن اعتماد المؤسس الدستوري والمشرع على آلية واحدة سوف لن يخدم المبتغى، وهو الوصول إلى انتخابات شفافة حرة ونزيهة.
وبالفعل أثبتت تجارب مقارنة مشابهة (العراق، تونس، بلدان إفريقية ودول أمريكا الجنوبية)، مع مرور الوقت عدم نجاعتها، كما أن نظام الهيئة الواحدة حتى وإن اعتبر جيدا سيتحول بفعل مرور الزمن إلى مدعاة للانتقاد الذي لم تسلم منه وزارة الداخليةً سابقاً، وستفقد القبول الاجتماعي.
وعليه أرى من الضروري دسترة السلطة، وفق كيفية مختلفة لما جاء في المسودة مع إصلاح مجالات تدخلها في قانون الانتخابات، بدءا من مسألة انتخاب بدل اختيار أعضائها مناصفةً بين الكفاءات المستقلة والقضاة وموثقين ومحضرين وهيكلتها مركزيا ومحليا وتبيان طبيعتها ووسائلها القانونية وآثار قراراتها وإعادة تنظيم آلية الاحتجاج والطعن التدرجي والشكاوى لديها مع باقي السلطات، سيما مع الجهات القضائية العادية، الإدارية والدستورية.
وبالموازاة خلق آلية سياسية تسمى اللجنة السياسية للمساهمة في مراقبة العملية الانتخابية كلجنة ذات طابع سياسي غير دائم من ممثلي الأحزاب المشاركة، تنشأ بموجب التنظيم، تنظر في المسائل التي لا تدخل في اختصاصات السلطة، وتبقى هذه الأخيرة كجهة تظلّم ذات طابع متخصص...
وهكذا نتمكن من توزيع سلطة البتّ في المهام والاختصاصات الأربعة على أكثر من جهة (تحضير، تنظيم، المراقبة والإشراف والمنازعات)، مع توسيع صلاحياتها إلى سلطة البت في الانتخابات المهنية الأخرى مثل تنظيم ومراقبة انتخابات المجلس الأعلى للقضاء، نقابات المحامين، الاتحاديات النقابية والمهنية، الانتخابات العضوية لمجلس الأمة، غرف التجارة والصناعة، الغرف الفلاحية، مع وضع قانون أساسي للإداريين والتقنيين الملحقين بالسلطة الوطنية.