...إنّه حولنا، جنوبا وفي المتوسّط وشمالا، أعني الحلف الأطلسي، وإن أضفنا إلى ذلك القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا فإنّه يمكن القول إن هناك قوى تسعى لتعفين الوضع في منطقتنا وإدامته، والأمر بداية ونهاية يستهدف ثروات طبيعيّة في ليبيا وفي منطقة الساحل، وهو فضاء إن يجاور الجزائر فإنه يمتد من غرب إفريقيا حتى حدود إثيوبيا.
تاريخيا كان طريقا للملح وكان طريقا للذّهب، وللعجب شيّدت حوله صروح ثقافية وعلمية ودينية، وتواصل وتعارف بين شعوب ذات أعراف مختلفة.
إنّهم حولنا، شرقا وجنوبا تركيا في ليبيا وفرنسا هناك، بالاضافة لتواجدها جنوبا في مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو وواشنطن، التي بالاضافة لقيادتها العسكرية في إفريقيا فهي تقيم أخرى في ليبيا.
إنّه وضع أكثر من مقلق، بل هو رهيب ومهدّد، والغريب أنّه كلما زادت هذه التدخلات تضاعفت الهجمات الإرهابية في مالي وحتى نيجيريا…هل هناك تكامل بين الإثنين، التّدخّلات العسكرية الأطلسية والتّنظيمات الإرهابية؟
ما يحدث في سوريا والعراق، حيث نفس الدول تتواجد دون شرعية يؤكّد هذا التكامل.
إنّها مقدّمة أردتها مدخلا للتّذكير ببعض مواقف بلادنا حول قضية حدثت بالقارة إبّان الخمسينيات الثانية للقرن الماضي حين ساعدت عسكريا دولا تعرّضت إمّا وحدتها التّرابية لمحاولات الفصل أو لعدوان عسكري يستهدف تغيير نظامها.
من يتذكّر الكولونيل أوجوكو؟ وهل تتذكّرون إسم بيافرا؟ وهل تتذكّرون الجنرال دوغول؟
في سنة ١٩٦٦ تعرّضت نيجيريا بقيادة يعقوب قوون لاضطرابات كبيرة بين الشمال والجنوب نتيجة انقلاب عسكري أدّى لمقتل الرّئيس أبو بكر طفاوا بلاولا وخلفه حكم عسكري برئاسة الجنرال يعقوب جوون.
في ظل تلك الظّروف انتهز العقيد أوجوكو الفرصة لإعلان استقلال ولاية بيافرا، وبيافرا هذه ما يسمى اليوم دلتا نيجيريا، وهي أغنى منطقة بالبترول، إنها بداية حرب أهلية بين الدولة الإتحادية والإقليم المنفصل، وكانت الدولة الوحيدة في العالم التي اعترفت بإستقلال بيافرا فرنسا بقيادة دوغول، والدافع الرئيسي لذلك الثروة النفطية وأيضا محاولة وضع قدم في منطقة تقع ضمن النفوذ البريطاني.
الجزائر كانت لم يمض على استقلالها سوى أربع سنوات، إلا أنها قدمت ما كان بوسعها من مساعدات عسكرية وطبية للحكومة الإتحادية بطلب لاغوس، وتضامنا مع بلد يتعرض للتقسيم، هل نحن في ذلك نطبّق مبدأ يوغرطة الذي أطلقه منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة: إفريقيا للأفارقة؟
ذلك جزء من الموقف، كذلك قدمت مصر عبد الناصر مثل جزائر بومدين دعما عسكريا لحكومة يعقوب جوون.
هذه الواقعة حكاها لي الصّديق الطبيب سي محمد بن منصور في ثمانينات القرن الماضي حين كنت مديرا لجريدة «الجمهورية»، هذا الشّخص الرائع ابن تلمسان الحضارة والثقافة وهو أستاذ للطب الباطني ومسؤول عن جناح ١٤ في مستشفى وهران الجامعي، دفع به وضع التسعينات حين كان الإرهاب وأيضا بتواطؤ من الغرب وفي طليعته فرنسا ميتران يسعون لإسقاط الدولة الجزائرية بالضغوط والحصار والتآمر مع الإرهاب الدموي التكفيري، وأتذكّر هنا الوصف الدال الذي كان دوما الرّئيس السّابق اليامين زروال، أطال الله عمره، يطلقه على أولئك الدّمويّين: مجرمون، خونة ومرتزقة.
أعود للأستاذ بن منصور الجرّاح الإنساني المتشبّع بالقيم الحضارية والثقافية الحافظ للقرآن الكريم، والذي يصر على تحفيظه لأبنائه وبناته،سألت عنه ذات يوم فقيل لي: «لقد باع كل ممتلكاته وهاجر إلى المغرب، وشيّد مصحّة في الدار البيضاء»، ولست أدري إن كان لا يزال على قيد الحياة وأتمنى ذلك، أم غادرها كما غادر الكثير من الأصدقاء؟
وماذا عن غينيا كوناكري وسيوكوتري؟
في إحدى ليالي ١٩٧٠، لا أتذكّر الشهر واليوم، هاجمت قوّة عسكرية برتغالية العاصمة كوناكري، وكادت أن تأسر الرّئيس سيكوتوري، لكنها نجحت في اغتيال الثّائر الكبير صاحب مقولة: «الجزائر قبلة الثوّار»، الأمين العام لتحرير غينيا بيساو وجزر الرأس الأخضر، كان كابرال هدفا للجنرال سبينوزا منذ أن تولى قيادة القوات البرتغالية في غينيا بيساو، واستطاع أن يغتاله في كوناكري التي كانت كل شوارعها وأزقّتها ممتلئة بالجنود والحواجز، وكانوا يسكرون حتى الثّمالة ويرقصون ويغنّون، وحين يجيبك أحد ما مدنيا أو عسكريا على الهاتف، أول جملة تسمعها هي: مستعد للثورة، شعار سيكوتوري.
في تلك الأيام سارعت بلادنا إلى تقديم كل الدّعم العسكري والمادي لحكومة كوناكري، وكان الوفد العسكري الذي أرسله الرئيس بومدين رحمه الله إلى غينيا يقوده المرحوم المجاهد العقيد سليمان هوفمان، ولسخرية الأقدار أنّه بعد ذلك بسنوات قليلة، وبسبب مقابلة في كرة القدم بين مولودية الجزائر وحافيا كوناكري في نهائي كأس إفريقيا بالجزائر، فازت المولودية ونالت الكأس، فجنّ جنون سيكوتوري وأصبح من أكبر خصوم الجزائر التي أنقذته!! ربما نفس الشيء ذلك الذي حدث مع المصريّين في أم درمان.
الجزائر من أكبر البلدان الإفريقية مساحة، وهي أيضا من أكبر بلدان القارة من جهة طول حدودها التي تتعدى ستة آلاف كلم، وتتجاور مع سبع دول وواجهتها البحرية تبلغ حوالي ١٤٠٠ كلم، ولسوء الحظ أو نتيجة ظروف أساسها حزام الفقر الذي يحيط بنا جنوبا والتدخلات الغربية والأطلسية حولنا، فإنّ المذهب العسكري الذي تبنّاه النّظام السّابق طيلة عشرين سنة جعل الجيش الجزائري لا يحرس ويحمي فقط الحدود الوطنية، ولكنه يحمي حدود الدول المجاورة ويحمي أوروبا من موجات الهجرة القادمة من السّاحل وحتى من وراء الساحل.
أعني هنا أنّه لابد من طرح مسألة العمل الإستباقي وليست بالضرورة تدخّلا عسكريا مباشرا، وإنما بإيجاد ميكانيزمات سياسية ودبلوماسية تسمح بإبرام إتفاقيات تعاون عسكري حين الضرورة بالإضافة للتركيز على سياسات التعاون التنموي وخاصة في شمال مالي والنيجر. وللتذكير فقد سبق لبلادنا أن أقامت قيادة عسكرية مشتركة في تمنراست مع النيجر ومالي وموريتانيا، هدفها تبادل المعلومات والتعاون ضد الجماعات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة العابرة للحدود وتهريب البشر والمخدرات، لكن الضغط الفرنسي أساسا على المستعمرات السابقة أدى بهذه الدول للإنسحاب ولم ينفع التواجد العسكري الفرنسي على أراضيها من تحقيق الأمن والسلم بل ضاعف من الهجمات الإرهابية ضدها وضد المدنيّين.
إنّ التّهديدات لأمننا الوطني اليوم تأتي من الشرق ومن الجنوب أساسا، وأعتقد أنّ شعوب المنطقة تنظر دائما إلى الجزائر بثقة واحترام، وكم من مرّة رعت الجزائر اتفاقيات السّلام والمصالحة في مالي والنيجر، ولكن السلام والمصالحة يعني أساسا تنمية المناطق الفقيرة البعيدة عن بماكو ونيامي، وذلك ما لم يتحقّق مع الأسف.
وحول النّقاش الذي طرحه مشروع دستور الجزائر الجديدة فيما يتعلق بأيّ دور لبلادنا عسكريا على الساحة الدولية، فإنّ هذه المنطقة ليست قضاء وقدرا وقرارا هكذا يتخذ، إنما قد يكون ذلك على شكل مشاركة تحت مظلة الأمم المتحدة في قوات للسلم والأمن.
وأود أن أذكر هنا أنّه سبق لبلادنا أن شاركت بكتيبة عسكرية تحت مظلّة الأمم المتحدة في كمبوديا وربما أتذكّر جيّدا، إن شاركت مرة أخرى تحت نفس المظلّة في بلد إفريقي.
أنهي هذه الخربشة بالتّذكير بإحدى مصطلحات مدرّبي كرة القدم...أفضل دفاع هو الهجوم!!