كنا ثلاث أصدقاء مميزين ، متحدين وأوفياء رغم أننا نسكن في أحياء مختلفة متباعدة، وبذلك ندرس في مدراس مختلفة ، أنا في مدرسة خلف خيرة ، وأمير في مدرسة الأمير خالد في الناحية الشرقية ، وصديقنا مولاي علي في مدرسة ابن باديس في الناحية الجنوبية ...
نلتقي فنلعب ونركض ونتحدث عن الدروس وأفلام الكرتون وعن المعلمين والمعلمات فنصنفهم بين الطيب والشرير والسيئ! وكنت في كل مرة أدرك من كلامهما ومن لهجتهما ومن ابتسامتهما أن مجاملتهم لي ووصفي بالمتفوق المرح لم تكن تهدف إلا الى السخرية مني لأن مدرستي تحمل اسم امرأة نكرة ، خلف خيرة ! بينما ابن باديس والأمير خالد شخصيتان عظيمتان في تاريخنا الوطني وتاريخ العرب الحديث!
ابن باديس : الرجل العظيم والمعلم العبقري والمصلح الفذ الذي ارتبط اسمه بيوم العلم ، وارتبطت صورته بنشيد شعب الجزائر مسلم والى العروبة ينتسب .... الذي يكاد كل تلميذ يحفظ أبياته الأولى !
الامير خالد : رجل سياسي ووطني كبير وهو حفيد البطل المغوار الأمير عبدالقادر ، وقد جعل قضيته هي الدفاع عن المصالح المادية والمعنوية لأبناء وطنه من الجزائريين !
وقد كان يشعرني ذلك بالحزن والشعور بالنقص اتجاهما ، وسألت والدي عن خلف خيرة فقال انه يعرف فاطمة نسومر ، جميلة بوحيرد ، حسيبة بن بوعلي رفيقة علي لابوانت في الكفاح داخل القصبة! وأيضا بهية وفاطمة سعدان .... اما خلف خيرة فلا يعرف سوى أن مدرستنا الابتدائية تحمل اسمها!
وسألت جدتي فقالت بأنها عرفتها امرأة شجاعة ، كانت تسكن الخيام في البادية في منطقة الرصفة ...وكانت وعائلتها بالكامل تدعم المجاهدين وطالما كانوا يتناولون العشاء والغداء عندهم ، وعرف الحركى بالأمر فأوصلوا ذلك الى القيادة الفرنسية ،فقامت الطائرات في سنة 1958 بقنبلة المنطقة بوحشية مفاجئة فألقت القنابل على الخيام فاستشهد الكثير من الرجال فبدائيين ومواطنين.....أما من النساء فكانت هي فقط ، والعديد من الجريحات ... كانت امرأة مميزة وشجاعة ....
وقلت أسفاً : ـ للأسف يا أبي ليست مثل ابن باديس أو الأمير خالد! حدقت في جدتي وسألتني ماذا أقصد ؟ فابتسم والدي وقال : ـ اي لم تكن عظيمة مثل جميلة أو حسيبة بو....
فقاطعته جدتي غاضبة : ـ ماذا يقصد ابنك بالعظمة ؟ لا أعرف ماذا يقصد ، وإن كان يقصد خدمة الوطن والمشاركة في الثورة فكل نساء الجزائر بطلات وعظيمات ! وليست هي فقط أو غيرها لأن التي لم تستشهد أو تحمل السلاح أو تخبز الخبز للمجاهدين فإنها حبلت وأرضعت وربت الأبطال من الرجال ! والمرأة الجزائرية ما بكت أبدا وإنما تزغرد دائما لما تفقد الأب ، الزوج ، الإبن ،الأخ أو العم والخال....
ولما رأني والدي غير مقتنع بكلام جدتي أضاف هو : ـ هذه امرأة بطلة وشهيدة ابنة منطقتنا ، خاصة بنا ، أما ابن باديس والأمير خالد أو جميلة فإننا نتشاركهم مع مدن وولايات أخرى ... خلف خيرة خاصتنا ، وابنة منطقتنا ، ابنة هذه المنطقة الصغيرة التي لا تكاد تظهر على الخريطة ، هذه المنطقة أيضا شاركت في الثورة .... شاركت خلف خيرة الغير معروفة كما شاركت حسيبة المشهورة وطنيا ودوليا !وذاك شرف كبير لمدينتنا الصغيرة ....
صرت أفتخر بالاسم الذي تحمله مدرستي ، وما صار يضايقني اسم خلف خيرة ، وصرت أعتبرها شخصية مهمة لا تقل أهمية عن الأبطال الكبار فالبطولة والوطنية لم تكن أبدا حكرا على الرجل ، أو على المدن الكبرى دون المدن الصغيرة....
وما صار صديقي يفتخران علي بشيء....