انتهت أحداث أكتوبر 1988 إلى ما انتهت إليه فقلنا حينها بأن الوقت قد حان لإقلاع شامل خاصة بعد الإصلاحات السياسية التي جاء بها دستور 1989.لكن تلك الأحداث التي كرست التعددية السياسية تحولت إلى فوضى عارمة و انفلات سياسي وإيديولوجي و ثقافي وإعلامي، ثم صارت عملية إعصار كاد يدمر البلاد بعد انتخابات 26 ديسمبر 1991 التشريعية الملغاة ، إذ دخلت البلاد حينها في دوامة أزمة سياسية بعد إلغاء نتائج تلك الانتخابات و توقيف المسار الانتخابي حيث انتهى الأمر بتدهور الوضع الأمني و ظهور إرهاب كاد يأتي على الأخضر و اليابس في كامل البلد.
ومع ذلك فإننا لم نستفد من درس تلك المأساة الوطنية بالرغم من قوانين الرحمة و الوئام المدني ثم المصالحة الوطنية ثم وعود الإصلاحات المزعومة الشاملة التي انتهت إلى حراك شعبي كاسح عام 2019 لاقتلاع جذور عصابة جعلت من المال العام مصدرا للنهب و الثراء و مطية للوصول إلى الكرسي و مصدر القرار و التحكم في دواليب الدولة عن طريق فرض ولاءات و لوبيات و أتباع لم تكن تعنيهم لا مصلحة الشعب و لا قيمة الوطن بقدر ما كان يهمهم تكديس المال و تحقيق الثراء الفاحش ، وكأنه لا يوجد لا قانون بعد أن غاب الضمير و اعتلت النفوس بالجشع و أمراض السلطة و حب التسلط و اكتناز الثروات.
كان أمل الجزائريين خصوصا بعد قانون المصالحة أن تتوج تلك المرحلة بانتعاش اقتصادي وحصول انتقال ديمقراطي سلس و تحول الجزائر إلى دولة لا تعتمد على ريع المحروقات خاصة أن ما عُرف بالبحبوحة المالية التي عاشتها بلادنا تلك الفترة لم تجعل مسؤولي العشرين سنة الماضية يستفيدون من دروس الماضي ، بل إن تلك البحبوحة تحولت إلى نقمة بعد تفشي الفساد في مختلف دواليب الدولة وتصحر الحياة السياسية و انغماس عدد كبير من المسؤولين الكبار في الرشوة و الفساد و شراء الذمم، متحالفين في ذلك مع عدد من أرباب العمل و لوبيات المال الفاسد .
و قد أدى هذا التعفن في منظومة الحكم إلى حركة تذمر شامل كانت تنمو إلى حد ميلاد حراك شعبي بدأ في الـ 22 فبراير 2019 و انتهى بإسقاط العهدة الخامسة التي كان محيط الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة يخطط لها رغم غياب هذا الأخير عن المشهد العام للبلاد منذ 2013 ، حيث تم استغلال صورته التي كانت تُكرم بشكل يدعو إلى السخرية تارة و إلى الحسرة تارة أخرى في مختلف التظاهرات السياسية و الاقتصادية والاجتماعية و الثقافية.
و قد أدى ذلك الحراك الشعبي إلى إجراء انتخابات رئاسية توجت بانتخاب الرئيس عبد المجيد تبون رئيسا للجمهورية ، حيث راح يصف الحراك الشعبي بالمبارك، و يبشر الجزائريين بميلاد الجزائر الجديدة ، مع العلم أن الرئيس تبون كان قد طاله الظلم و التعسف و الإبعاد من طرف تلك العصابة بعد شهرين فقط من تعيينه وزيرا أول عام 2017 ، إذ أن الرجل جرى تعيينه وزيرا أول في الـ 25 ماي 2017 لتتم تنحيته في الـ 15 أوت من نفس العام .
لذلك فإن ما أتمناه أن تكون عهدة الرئيس تبون و جائحة الكورونا من العوامل و العناصر التي من شأنها أن تُفعِّل ميلاد الجزائر الجديدة كما باتت الأدبيات المتداولة تبشر بها ، و أن يستفيد المسؤولون في مختلف المواقع بعيدا عن الشعبوية المغشوشة من الدرس الرواندي لتحقيق إقلاع جزائري شامل يعتمد أساسا على العنصر البشري و على الحكم الراشد باعتباره من المسلمات الأساسية للتنمية .
أتذكر أنني كنت في عام 2008 أمثل المجلس الشعبي في لقاء للبرلمان الدولي بجنيف حول مجتمع المعلومات.جاء ذلك اللقاء بعد قمة المعلومات المنعقدة في تونس في 2005 التي كانت ترمي إلى تعميم المعلومات إلى بقية العالم بحلول عام 2015.
فقد كانت الإحصائيات في تلك الفترة تشير إلى أن 5 ملايير من سكان العالم ليس لديهم كمبيوتر ، و أن نصف سكان العالم لا يمتلكون الهاتف .
و لكن حلم مؤتمر تونس لم يتحقق مع نهاية عام 2015 و نحن نعيش الآن في 2020 ، إذ مازال جل العالم يعيش على الورق و القلم رغم أن قمة تونس كانت ترمي إلى أن يكون عالم ما بعد 2015 عالَما بلا أوراق و بلا أقلام ، و أن البشرية لن تكون لن تكون في حاجة إلى الأقلام سوى في حالة واحدة و هي التوقيع .
كان معظم أعضاء الوفود البرلمانية المشاركة في لقاء جنيف ما يزالون يتعاملون بالأقلام و الأوراق ، لكن ما أثار انتباهي أن شابين ــ و هما عضوان في البرلمان الرواندي الجديد ــ كانا يستخدمان فقط جهاز الكمبيوتر.
فقد كانت صورة الحرب الأهلية المدمرة بين قبيلتي التوتسي و الهوتو التي أودت بحياة أكثر من 800 ألف قتيل في رواندا عام 1994 ما تزال راسخة في ذهني ، بحيث أن عيني لم تصدق ذلك المشهد ، و أن تكون تلك هي حالة رواندا الجديدة التي هجرت الورق و القلم، بعد أن محت من ماضيها صورة بلد مزقته حرب أهلية مدمرة و عنيفة بين قبيلتين لا لسبب سوى للتنازع حول الهوية التي كادت العرقية التي غرسها الاستعمار في محاولة لتدمير واحد من مكونات ذلك البلد الواقع في شرق إفريقيا .
قصة حرب أهلية دامية ..
قصة تلك الحرب الأهلية التي عاشتها رواندا تعود إلى زمن الاستعمار البلجيكي الذي غذى الصراع بين قبيلتي التوتسي و الهوتو .
كانت قبيلة التوتسي تعيش على الرعي و الماشية ، و تتنقل في مختلف أنحاء رواندا بحثا عن الكلإ لماشيتها ، أما قبيلة الهوتو فقد كانت مستقرة تمتهن الفلاحة و تستحوذ على العديد من الأراضي التي تستغلها في الفلاحة .
و لأن الاستعمار لا يعيش إلا على إحياء النعرات العرقية و سياسة فرق تسد ، فإن المستعمرين البلجيكيين سعوا لإحداث حرب أهلية بين القبيلتين، و ذلك بالإيحاء لقبيلة الهوتو أن قبيلة التوتسي لا علاقة لها برواندا ، مستغلين في ذلك ترحالها الدائم في محاولة منهم للاستفادة من خيرات رواندا الفلاحية.
و قد أدى تأجيج ذلك الصراع العرقي إلى قيام قبيلة الهوتو بارتكاب مجازر رهيبة في صفوف قبيلة التوتسي ، مما أدى إلى تشريدها في مختلف البلدان المجاورة خاصة أوغندا، إضافة إلى تانزانيا و بورندي و الكونغو.
لكن حياة المنفى و التشريد لم تقتل في التوتسيين هويتهم و انتماءهم لوطنهم الأم رواندا و لا نزعت من نفوسهم روح الانتماء لوطنهم ، فقد راح التوتسيون يتشكلون في تنظيم عسكري انتهت انطلاقته عام 1991 بمصرع قائد ذلك التنظيم على أيدي القوات النظامية الرواندية التي كانت تؤطرها قبيلة الهوتو .
و في عام 1994 تأجج عنف دموي رهيب جديد إثر سقوط طائرة كانت تقل الرئيس الرواندي لاريمانا المنتمي إلى قبيلة الهوتو الذي تسبب في مصرعه .
و كان من نتيجة ذلك العنف وقوع حرب أهلية راح ضحيتها ما يقارب من مليون مواطن رواندي معظمهم من قبيلة التوتسي الذين امتلأت الأنهار و الغابات و البحيرات بجثثهم .
و لكن الجبهة الوطنية الرواندية التي تشكلت بقيادة شاب يُدعي بول كاغامي ــ و هو الرئيس الحالي لرواندا المنتمي لقبيلة التوتسي ــ استطاعت أن تزحف انطلاقا من الأراضي الأوغندية على العاصمة الرواندية كيغالي و تُسقط الحكومة المشكلة من الهوتو ، و بذلك استطاع هذا الشاب أن ينقذ بني جلدته الذين كانوا يتعرضون لإبادة عرقية جماعية في أكبر حرب أهلية مدمرة شهدتها البلاد منذ استقلالها عام 1962 ، و تمكن من أن يصبح رئيسا للبلاد رغم أن قبيلة الهوتو تمثل 80 بالمائة من سكان رواندا ، في حين لا تمثل قبيلة التوتسي التي ينتمي لها كاغامي سوى 20 بالمائة.
و بدلا من أن ينتهج هذا الشاب الذي قاد تنظيما مسلحا مكنه من الوصول إلى السلطة بواسطة القوة تصفية جسدية لعناصر قبيلة الهوتو كما توقع الملاحظون ذلك في بداية حكمه، فإن كاغامي الذي أصبح رئيسا لرواندا منذ مارس 2000 عمل على إخراج بلاده من حالة العداء بين أبناء بلده ، بحيث أدخل شعبه في مصالحة وطنية ، و قام بخطة اقتصادية امتدت من 2000 إلى 2020 .
وبذلك استطاع الرئيس كاغامي أن يطوي صفحة الحرب الأهلية بين أبناء وطنه و ينقل رواندا من بلد متخلف كان يعيش على الموت و الأحقاد الهوياتية ، إلى بلد متصالح مع نفسه رغم حمامات الدماء و يحقق لبلده في ظرف قصير قفزة نوعية في التنمية ، إذ استطاعت رواندا بذلك أن تحقق أعلى نسبة نمو في إفريقيا بـ 12.2٪.
فقد أولى العناية للتعليم و التربية،و أرسل عددا من الجامعيين و الخبراء لعدد من البلدان و من بينها سنغافورة للاستفادة من تجربتها التنموية الرائدة.
و عزز الرئيس الرواندي دور بلاده لتكون في مركز الصدارة في القارة الإفريقية، بحيث صارت واحدة من أكبر البلدان استقطابا للاستثمار الأجنبي و السياحة ، كما أن العاصمة كيغالي تحولت إلى واحدة من أنظف العواصم العالمية .
و كان من بين الإجراءات الصارمة للمحافظة على النظافة و البيئة في رواندا أن أي شخص يقوم بقطع شجرة فإنه سَيُجبر على غرس شجرة جديدة مكانها، كما يتم تغريمه بغرامة عالية قد تصل إلى 2000 دولار .
و قد أدى التسيير الراشد لرواندا الذي انتهجه الرئيس الرواندي كاغامي ــ الذي بَوَّأَ المرأة مكانة خاصة و جعلها تحتل المرتبة الأولى إفريقيا من حيث التمثيل في البرلمان بنسبة 49 بالمائة و كذا الإنجازات الكبيرة التي حققها لبلاده و جعلها تنتقل من بلد المجاعة و الحرب الأهلية إلى بلد آمن و مستقر و مزدهرــ أدى بالرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون إلى حد وصف الرئيس الرواندي كاغامي بأنه أكبر قائد في العصر الحالي ..
و في اعتقادي أنه ليس عيبا أن نستفيد من الدرس الرواندي ، و من تجربة إثيوبيا في ظل قيادة رئيس حكومتها الحالي آبي أحمد الذي وصل إلى السلطة منذ عامين فقط « 27 مارس 2018 « و صنع لبلاده موقعا محترما في ظرف قصير .
فهذا الرجل الشاب ذو الـ 46 عاما الذي أنهى الحرب المدمرة التي كانت تعيشها بلاده و نال جائزة نوبل للسلام يحقق اقتصاد بلاده الآن أسرع نمو في إفريقيا ، بحيث يتوقع الخبراء الاقتصاديون أن تصل نسبة النمو الاقتصادي في إثيوبيا هذا العام إلى 10.8 ، و هو رقم لم تحققه حتى البلدان الأخرى مثل الهند و الصين بالسرعة التي تمت في إثيوبيا .
و إننا إذا ما أخذنا هذين المثلين بعين الاعتبار، فالأكيد أننا سنجعل بلادنا تقلع نحو المستقبل، و ننهض بها في جميع المجالات ، و نجعل منها جزائر جديدة فعلا برؤية بعيدة المدى لما بعد 2040 ؟
إن العيب أن نكرر الفشل كل مرة رغم أن بلدنا يُعد أكبر بلدان قارة الإفريقية من حيث المساحة و يمتلك قدرات بشرية كفؤة هائلة ، و يمتلك ثروات ثمينة عدة.
العيب أن لا نستفيق هذه المرة و ننجح في خلق نموج متميز و ناجح للتنمية كما خلقت ثورتنا العظيمة النموذج الثوري الرائع الذي ألهمت به كثيرا من حركات التحرر و الشعوب الإفريقية لتفتك الحرية و تستعيد الاستقلال للعديد من بلدان الإفريقية.
لقد أبان الحراك الشعبي ثم جائحة كورونا قدرات إبداعية خارقة للعادة لدى فئات عدة وسط مختلف الكفاءات الجزائرية و خاصة الشبانية المبدعة منها.
و لذلك فإن تحقيق الإقلاع الشامل المنشود بات حتمية و ضرورة ملحة في الجزائر الجديدة.
إذ يتعين على المسؤولين في مختلف المواقع و المؤسسات أن يضعوا نصب أعينهم هذا الواقع الجديد لتنطلق بلادنا كعملاق كان واقعا تحت التنويم المغناطيسي .
و في اعتقادي أن الانطلاقة الحقيقية يجب أن تبتعد عن خطاب السياسة الشعبوية المقيتة و الشعارات الزائفة التي أنهى الحراك سحرها و مفعولها الزائف.
ذلك أن جيل اليوم لا يؤمن سوى بالواقع ، و الواقع الذي يجعل الناس يقتنعون و يندمجون في مشروع الجزائر الجديدة هو التغيير الهادئ بواسطة النخبة من الرجال و النساء المسنودين بالكفاءة و الأفكار و البرامج و حجة الإقناع.
ثم إن التغيير الحقيقي للجزائر الجديدة المأمولة في عالم اليوم هو أن نغير جميعا ما بأنفسنا شعبا و مسؤولين في مختلف المواقع .