بمجرد عودته إلى أرض الوطن شرع عبد الحميد في التدريس بجامع سيدي الأخضر ومسجد سيدي قموش بقسنطينة، كما أصبح يكتب مقالات في جريدة «النجاح» التي صدرت تلك الفترة، وقد وجد ابن باديس في تلك الجريدة أن خطها الافتتاحي يتلاءم مع الفكر الإصلاحي الذي بدأ ابن باديس يبشر به.
كانت الأجواء أثناء تلك الفترة أجواء الحرب العالمية الأولى بكل ما حملته من رياح للتغيير، ثم إن ابن باديس لم يبق وحيدا في معركته، بل انضم له صديقه البشير الإبراهيمي الذي عاد للوطن هو الآخر قبل أن ينضم لهما الطيب العقبي لاحقا، وهكذا بدأ الرفاق الثلاثة في التفكير لإطلاق مشروعهم الكبير بإنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقد مهد لذلك المشروع بإنشاء صحيفة أطلق عليها عنوان «المنتقد».
ففي الثالث من جويلية 1925، أقدم ابن باديس على إصدار أول عدد من تلك الجريدة التي حملت شعار: «الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء». وقبل انطلاقة هذه الجريدة هيّأ لها كل الوسائل للنجاح من مطبعة ومقر وهيئة تحرير. كان من بين محرري هذه الجريدة عدد من الزيتونيين من أمثال مبارك الميلي ومحمد السعيد الزاهري.
ومع الإقبال الذي الذي حظيت به صحيفته، أدرك ابن باديس أهمية الصحافة في إنجاح مشروعه النهضوي الإصلاحي وفي محاربة الاستعمار وأذنابه من الطرقيين الذين كانوا يخدرون الشعب بسلسلة من الخرافات وأعمال الشعوذة.
لكن الاستعمار وأعوانه من الطرقيين خصوصا، لم يقفوا مكتوفي الأيدي فقد تم تعطيل الجريدة بعد صدور 18 عددا منها.
وكان الشيخ عبد الحميد قد أصدر قبل ذلك مجلة أسبوعية تحت عنوان «الشهاب» حولها لاحقا إلى مجلة شهرية، وكان المبدأ العام الذي سارت عليه تلك المجلة طيلة أربعة أعوام وإلى غاية توقفها بعد أن صدر منها 178 عددا هو العملُ على بلورة إصلاح ديني ودنيوي وسط الشعب الجزائري.
لم يكتف ابن باديس بالتعليم وتأسيسِ مدارس حرة للتربية والتعليم، ولا بالصحافة كمنبر لنشر الأفكار، ولكنه راح قبل تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يمهد لنشر أفكاره الإصلاحية بزيارات ميدانية شملت مختلف جهات الوطن، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، ويلتقي بالعلماء والمشايخ وبالأعيان، شارحا لهم فلسفته الإصلاحية، داعيا إلى ضرورة نشر التربية والتعليم في أوساط الشعب وخاصة الناشئة ومحاربة البدع والدجل والشعوذة بأسلوب سلس يقوم على الحوار والإقناع وينفذ إلى العقول والقلوب.
تأسيس جمعية العلماء المسلمين
في يوم الثلاثاء 5 من ماي 1931 إلتأم بنادي الترقي بالعاصمة 72 من علماء الجزائر الذين جاؤوا من مختلف جهات الوطن.
دارت رئاسة ذلك المؤتمر برئاسة الشيخ أبو يعلا الزواوي السعيد بن محمد الشريف، وهو واحد من علماء الفقه وعلماء اللغة العربية، وينحدر من إحدى قرى تيزي وزو، وأما الأستاذ الشهيد محمد الأمين العمودي فقد عُيِّنَ مقررا للمؤتمر الذي تواصلت جلساته لمدة ثلاثة أيام، انتخب خلاله المؤتمرون بالأغلبية الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيسا للجمعية، بالرغم من عدم حضوره لعدة جلسات.
وقد دفعت هيمنة الإصلاحيين على قيادة الجمعية مختلف القوى الحاقدة على ابن باديس وجماعته من الإصلاحيين، خصوصا الإدارة الاستعمارية وجماعة الطرقيين، إلى شن حرب على الجمعية في محاولة لشل نشاطها.
لكن رجال الجمعية الذين انتشروا في مختلف أنحاء الوطن، سواء لتأسيس المدارس أو لبث أفكار الإصلاح ومحاربة كل خنوع للاستعمار، سواء عن طريق الخطب أو الصحافة التي بدأت الجمعية في إصدارها بدءا من 1932، قاوموا مختلف أشكال المكائد وأعمال العرقلة التي طالتهم، خاصة عبر توقيف صحف الجمعية.
لقد أراد ابن باديس ورفاقه من أمثال الإبراهيمي والعقبي والزاهري والميلي وخير الدين، مباشرة عقب تأسيس جمعيتهم، أن يجعلوا من الصحافة الناطقة باسم الجمعية منبرا لبث الأفكار الإصلاحية.
وهكذا تم إصدار أول جريدة للجمعية حملت عنوان «السنة المحمدية» عام 1932، وسرعان ما أقدمت الإدارة الاستعمارية على توقيفها، ولكن هذا العمل التعسفي لم يُثن رفاق ابن باديس على إصدار جريدة أخرى صدرت في 17 من جويلية 1933 تحت عنوان: «الشريعة النبوية المحمدية»، وقد طالها هي الأخرى بعد فترة وجيزة من صدورها قرار الغلق.
وفي عام 1935 عاود ابن باديس ورجال الجمعية إصدار جريدة «البصائر» التي استمر صدورها إلى غاية 1939.
ابن باديس السياسي... ابن باديس الثائر...
لم يكتف ابن باديس بالنضال عبر التدريس وإنشاء المدارس والصحافة وبث الحماس عبر الخطب والدروس التي كان يلقيها في مختلف أنحاء القطر الجزائري، بل إن نشاطه امتد للعمل السياسي.
فقد ساهم ابن باديس في إخماد نار الفتنة التي تسبب فيها يهودي يوم 3 أوت 1934 عندما تَبوَّل على ميضاءة مسجد الجامع الأخضر وقام بسبّ المصلين، مما أدى إلى نشوب أعمال عنف وشغب أدت إلى وقوع عدد من القتلى والجرحى في صفوف الجزائريين واليهود والأوروبيين وفي خسائر مادية معتبرة بالمدينة.
كانت القوى الوطنية الجزائرية خلال الثلاثينيات مشتتة، بين حركة الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر الداعي إلى المساواة في الحقوق بين الجزائريين والأوروبيين، مع محافظة الجزائريين على مميزات الشخصية الجزائرية، والتيار الوطني الاستقلالي الذي تزعمه مصالي الحاج الساعي إلى ضرورة بعث الدولة الجزائرية من جديد بعد تشكل نجم إفريقيا ثم حزب الشعب وحركة الانتصار لاحقا، وبين التيار الإصلاحي لرفاق عبد الحميد بن باديس الذي كان يركز على بعث الأمة الجزائرية والسعي لإحياء الهوية الجزائرية من خلال التركيز على التعليم وبث الوعي في النفوس.
وقد كانت وفاة الأمير خالد في 9 يناير 1936 السبب الذي جعل ابن باديس يعجل بالدعوة لعقد مؤتمر يجمع مختلف القوى الوطنية المؤمنة بمستقبل الشخصية الجزائرية انطلاقا من خلال شعاره: «الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا».
وهكذا جرى عقد المؤتمر الإسلامي الجزائري في السابع من جوان 1936 بقاعة «الماجيستيك» - الأطلس حاليا - بحضور حوالي خمسة آلاف مندوب، ولم يتمكن 2000 شخص من الدخول بسبب اكتظاظ القاعة، لكنهم تابعوا أشغال المؤتمر من الخارج.
وقد كان من نتائج المؤتمر إرسال وفد كان من بين أعضائه عبد الحميد بن باديس لتقديم عريضة مطالب تتعلق بعدد من حقوق الجزائريين إلى رئيس الحكومة الشعبية الفرنسية ليون بلوم.
لكن تلك المطالب بقيت حبرا على ورق نظرا لتلاعب الجانب الفرنسي.
ويبقى في الختام أن هناك نقطة هامة يطرحها بعض الدارسين والمهتمين بشأن المسار الثوري للشيخ عبد الحميد بن باديس، وهل كان بإمكانه أن يرفع السلاح في وجه المستعمر لو أنه بقي حيا إلى غاية اندلاع ثورة أول نوفمبر.
والحقيقة أنه بغض النظر على أن العديد من رفاق وتلاميذ عبد الحميد بن باديس كانوا من أوائل من لبىَّ نداء ثورة أول نوفمبر والتحق بها مبكرا مجاهدا بالسلاح وبالقلم ونال الشهادة، فإن بعض ما نُقِل عن ابن باديس يؤكد الروح الثورية التي كانت تسكنه.
ففي مقال كتبه ابن باديس بجريدة الشهاب جوان 1930 يقول فيه:
«ما عَهِدنا الحرية تُعِطَى، إِنما عَهدِنا أنَّ الحرية تُؤخَذ، وما عهدنا الاستقلالَ يُـمْنح ويُوهب، إنما علِمنا الاستقلالَ يُنال بالجهاد والاستماتةِ والتضحية».
ولعل أبلغ ما نُقل عن الفكر الثوري للشيخ عبد الحميد بن باديس هو ما رواه على لسانه تلميذه الشيخ المجاهد أحمد حماني، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى سابقا، رحمه الله، فقد جاء في كتاب:
«عبد الحميد بن باديس العالم الربَّاني والزعيم السياسي».. لصلاح حامد مطبقاني ص94:
«أنه خلال حديث دار بين الشيخ ابن باديس وبعض الحضور ومن بينهم تلميذه حماني، بشأن موقف بعض الأحزاب السياسية من الحرب العالمية وقيام السلطات الاستعمارية آنذاك بالتجنيد الإجباري للجزائريين في الخدمة العسكرية لصالح فرنسا، أن الشيخ ابن باديس راح يقول للحاضرين:
(لو أنهم استشاروني واستمعوا إليّ لأشرت عليهم بصعودنا جميعا إلى جبال الأوراس وإعلان الثورة)
ولاشك أن هذه العبارة وحدها تكفي لتبين الروح الثورية التي كانت تسكن الرجل، وأن ابن باديس كان يهيّئ الرجال للتغيير وللثورة من خلال التركيز على جعل الناس يعرفون تاريخهم ويعتزون بهويتهم وبمقومات شخصيتهم الجزائرية، كل ذلك تمهيدا لأمنية الثورة التي حققها له الكثير من تلاميذه والمتشبعين بفكره الإصلاحي الذي كان بحد ذاته ثورة بمفهوم عصره».
(إنتهى)
المصادر:
ــ أحمد منور: من أجلهما عشت.
ــ شهادات شفاهية مع الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، ومع السيدة زهور ونيسي.
ــ الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي: مذكرات جزائري، الجزء الثاني: هاجس البناء.
ــ الدكتور ناصر الدين سعيدوني: الجزائر منطلقات وآفاق.
مقاربات للواقع الجزائري من خلال قضايا ومفاهيم تاريخية.
ــ صلاح حامد مطبقاني: عبد الحميد بن باديس العالم الرباني والزعيم السياسي.
ــ وثائق ومحاضرات لعدد من الدكاترة. من بينهم الدكتور عمار طالبي عن تبن باديس وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.