طباعة هذه الصفحة

إبن باديس مات شابا من أجل تحرير العقول

هذه الكورونا لن تنسينا ذكراك الثمانين!!

بقلم محمد بوعزارة

كم يَحِزُّ في نفسي أن تمر ذكرى وفاتك الثمانين دون احتفال هذا العام ــ وقد كنا نحتفي بها كيوم للعلم ــ وها قد تحولت هذه الأيام لتكون مصاحبة لنا في الأحزان والحجر في البيوت.
آه كم يحِز في نفسي يا ابن باديس، يا رمز نهضة الجزائر أن لا تُلقى في ذكرى رحيلك حتى مجردُ محاضرة أو تقام ندوةٌ عن خصالك وما أكثرها، أو يُنظَّم ملتقىً عن أعمالك وكم هي عديدة من أجل الجزائر والإسلام، وقد كان هذا هو شعارك الجميل الذي أطلقته كالرصاصات القاتلة يرعب المستعمرين الجلاَّدين ومن ورائهم المتخاذلين والجبناء والاندماجيين والموتورين.
 كان الكثير من أولئك يُمجدون الاستعمار ويطبِّلون للاندماج والعيش تحت ظل فرنسا، وكان البعض الآخر غارقا في الجهالة ما بين الطرقية والشعوذة والدجل يُسبح باسم الأشخاص إلى حد العبادة، بدلا من التسبيح باسم المولى جلت قدرته وعلا شأنه، فجئت لتحارب بالحرف وبالفكر وباللسان جيشا أقامته فرنسا الاستعمارية لتُبقيَ هذه الأرض تحت سيطرتها إلى الأبد، ولتبقى الجزائر جنَّتها الموعودة.
هكذا جاء شعارُك ذلك: «من أجلهما أَعيش: الجزائر والإسلام».

بومدين يُرسِّم 16 أفريل يوما للعلم...

كم أنا حزينٌ أن تمر ذكراك هكذا أيها الراحل الكبير الذي مات شابا من أجل تحرير العقول ونشر العلم وإشاعة التعليم بلغة الضاد بين بني وطنه، ومحاربة الجهل وبث الوعي السياسي استعدادا لتحرير الجزائر.
 كم هو حزين أن تمر ذكراك هذه المرة، ونحن مثل كل شعوب هذا الكوكب مُحَاصَرون، محجورٌ علينا في بيوتنا، وحيث نحتفل بيوم العلم افتراضيا بعد أن بتنا عاجزين مُرغمين حتى على مجرد المشاركة في دفن أعزِّ الناس لدينا بعد تفشي هذه الجائحة التي تحاصرنا في كل مكان في زماننا الموبوء هذا.
 نخاف من مجرد رذاذِ عطسةٍ طائشة تخرج من أنف هذا أو ذاك، أو سعالٍ من مزكوم، إذ تصبح العطسة بالنسبة لنا أو السعال أشبه ما تكون بمتفجرات مميتة ومرعبة.
كان الحوار الذي دار ذات يوم بين الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله وبين وزيره للتربية الوطنية الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي نجل الشيخ البشير الإبراهيمي الصديقُ الحميم للعلاَّمة عبد الحميد بن باديس، هو كيف نحتفي بيومٍ يُعيد لنا أبعاد الهوية الوطنية في مكوناتها الثلاثية الأبعاد.
ويوضح الدكتور أحمد طالب في الجزء الثاني من كتابه: «مذكرات جزائري، هاجس البناء»:
أنه في ظل ذلك النقاش تدخل الرئيس بومدين في إحدى الجلسات وراح يقول:
«إن الإنسان المتعلم لا يمكن استعباده، كما أنه من المستحيل إخضاعُ شعبٍ يَغْرفُ من مناهل المعرفة، لذلك فإنه لأَمرٌ رشيد أن نُقيم يومًا للعلم نحتفل به كل عام في المؤسسات المدرسية، وفي الأوساط الإعلامية من أجل أن نُذكِّر الجزائريين بمحاسنِ العِلْم».
ويوضح الدكتور طالب في نفس الكتاب ص45 و46، أن الرئيس بومدين طلب منه أن يقترح يوما لذلك، فاقترحتُ عليه يوم 16 أفريل 1940 الذي يصادف يوم وفاة ابن باديس؛ ذلك أنني كنتُ أجهل تاريخ ميلاده.
 وهكذا صدر مرسوم رئاسي لتجسيد ذلك الاقتراح بإقرار يوم 16 أفريل يومًا للعلم، لجميع الجزائريين (إبن باديس ولد يوم الأربعاء 4 ديسمبر 1889 وتُوفي يوم الثلاثاء 16 أفريل 1940).
وخلال اتصالٍ هاتفي معه يوم 8 أفريل 2020 أوضح لي الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، أن الرئيس بومدين، رحمه الله، قد وقَّع فعلا لاحقا على نص المرسوم الذي يُقر 16 أفريل يوما وطنيا للعلم.
ما من شك أن المتتبع لمسيرة رائد النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس منذ مرحلة طفولته، يشهدُ له بالاستقامة والأخلاق الحميدة وبسمو النفس والنبوغ، ناهيك عن الشجاعة ووضوح الفكر التي مَّيزته عن الكثير من أترابه وزملائه في الدراسة.
اهتم به والده سي مصطفى، رحمه الله، منذ صغره، فأدخله ليحفظ القرآن الكريم عند الشيخ محمد المدَّاسي، وهو واحدٌ من أشهر مقرئي قسنطينة في تلك الفترة، ثم أصبح عبد الحميد تلميذا لدى العالم الكبير الشيخ حمدان لونيسي.
 كان الشيخ لونيسي، رحمه الله، من أشهر علماء الجزائر في تلك الفترة، قبل أن يُضطر إلى الهجرة خارج الوطن بسبب المضايقات التي طالته من الاستعمار وأذنابه، خصوصا بعد أن دخل في خلافات مع مفتي قسنطينة في تلك الفترة.
وقد استقر الشيخ حمدان لونيسي، وهو من نفس العائلة التي تنتمي لها الوزيرة السابقة والكاتبة زهور ونيسي منذ 1908 إلى غاية وفاته في 1920 بالمدينة المنورة مُدرسًا بالمسجد النبوي.
اكتشف الشيخ حمدان لونيسي نبوغ الشاب عبد الحميد بن باديس فقرَّبهُ إليه، وراح يُشجِّعه على تحصيل العلم، إذ كان يتركه قبل أن يكمل سن الثالثة عشرة يَؤمُّ المصلين في رمضان خصوصا.
وفي الرواية التي تضمنت سيرة الراحل عبد الحميد بن باديس تحت عنوان: «من أجلهما عشت»، وهي عمل إبداعي ضخم من 576 صفحة للصديق الدكتور أحمد منور، الذي يعيش منذ عشرة أعوام بكندا، يشير الكاتب أن روايته تتضمن كثيرا من الحقائق لم يتم التطرقُ لها سابقا من قِبل العديد من الكُتَّاب الذين تناولوا حياة وفكر عبد الحميد بن باديس، ومن بينهم الدكتور عمار طالبي، والدكتور تركي رابح، والدكتور ناصر الدين سعيدوني، والسيدة زهور ونيسي، والدكتورعبد العزيز فيلالي وغيرهم ممن تناولوا حياة وفكر ابن باديس، وتتعلق هذه الحقائق الموثقة، بحسب الدكتور مَنُّور، ببعض الجوانب الخفية من حياة هذه الشخصية العظيمة.

إعجاب لم يُتوَّجْ بزواج...

لقد تحدث كثير ممن سردوا سيرة إبن باديس على أن زواجه من ابنة عمه «يامنة» والذي تم قبل توجهه إلى تونس للدراسة، لم يكن موفقا، خصوصا بعد فاجعة وفاة ابنه إسماعيل الذي كان والده عبد الحميد بن باديس يُطلق عليه اسم محمد عبدو، نظرا لتأثُر ابن باديس بالشيخ محمد عبده الذي زار قسنطينة في عام 1903.
 إذ خلال تلك الزيارة قام الشيخ حمدان لونيسي بتقديم عبد الحميد للشيخ عبده بعد أن طلب من عبد الحميد آنذاك عقب درس ألقاه الشيخ محمد عبده بأحد مساجد قسنطينة أن يُجود القرآن أمامه، وهو ما جعل الإمام محمد عبده يُعجب بطريقة تجويد الطفل ابن باديس ويتمنى له النجاح والتوفيق.
وهكذا فعقب تلك الفاجعة التي تمثلت في موت نجل ابن باديس إسماعيل، الذي لم يكن قد تجاوز سن 12 بعد حتى راحت زوجة الشيخ عبد الحميد بن باديس تُحمِّلُ زوجها مسؤولية موت ابنهما بتلك الطريقة المأساوية؛ ذلك أن الطفل إسماعيل توجه ذات يوم إلى المزرعة العائلية، كما كان يذهب عادة مع جده أو أبيه، وأمسك ببندقية جده وراح يعبث بها، الأمر الذي أدى بخروج رصاصات طائشة خطأً لتخترق جسد الطفل الصغير وتُرديه قتيلا مما أحدث حزنًا كبيرا لدى العائلة وخاصة لوالديْ الطفل.
وقد أدت هذه الفاجعة إلى أن تسوء العلاقة بين الزوجين المفجوعين في ابنهما، مما اضطر الشيخ عبد الحميد إلى تطليق زوجته.
يذكر الدكتور منُّور أنه أثناء دراسة عبد الحميد ابن باديس للقرآن في مرحلة شبابه المبكر لدى الشيخ محمد المداسي وقبل زواجه من إبنة عمه، كانت إحدى بنات شيخه المداسي تقوم بتدريس البنات في نفس المسجد الذي كان يدرس فيه الشيخ المداسي.
وقد صادف ذات يوم أن رأى الشاب عبد الحميد إحدى التلميذات تخرج بعد انتهاء فترة الدراسة، ثم تقف وهي تُمعن النظر فيه بكل إعجاب، ثم تقول له: آه كأنك عريس بهذا اللباس!

كان من عادة عبد الحميد إرتداء أجود الألبسة

واغتاظ عبد الحميد لملاحظة تلك الفتاة، وأدار وجهه عنها، لكنه سرعان ما أصبح لاحقا يهتم بأمر تلك الفتاة، حيث طلب من أحد أصدقائه أن يتحرَّى له عنها بعد أن قدم له أوصافها، مبديا إعجابه بها وبأنها فتاة جميلة شقراء. ولما عرف عبد الحميد من صديقه أن اسمها «وردة» وعرف مكان سكنها صار عبد الحميد الذي افتتن بجمال تلك الفتاة يتردد من حين لآخر بالقرب من سكنها ويظل ينتظر أن تطل فتاته من النافذة، حيث كان ينظر بين الفينة والفينة لها من نافذتها بكل خجل دون أن يلفت انتباه المارة!
ولكن من سوء حظه أن تلك الفتاة الشقراء التي تمنى في قرارة نفسه أن يتزوجها، قد تم تزويجها لشخص آخر يكبرها سنا ويقيم خارج مدينة قسنطينة في قرية نائية لا كهرباء فيها ولا ماء، كما أخبره أحد أصدقائه بذلك، مما أدخل عبد الحميد في حالة إكتئاب لازمته فترة غير طويلة.
وأيًّا كانت هذه الرواية، فهي تبقى مجرد رواية لا تُنقص من سمو الأخلاق التي كان يتميز بها الراحل ابن باديس، بل إنها تُظهر شفافية روحه وصفاء قلبه خلال مرحلة المراهقة.
وقد سألتُ السيدة زهور ونيسي التي ألَّفتْ كتابا هاما عن ابن باديس عن حقيقة هذه الفتاة في حياته، فذكرت أنها ربما تكون من صُنع خيال منور ليدخل بها عامل التشويق على روايته عن ابن باديس.
ولكنها أضافت، أن الراحل عبد الرحمن شيبان، رحمه الله، الوزير الأسبق للشؤون الدينية وأحد علماء الجزائر الأجلاء، ذكر لها بخصوص السيدة يامنة مطلقة الشيخ ابن باديس، رحمه الله، أنه التقى أثناء وجوده بتونس في أحد الأيام بسيدة جزائرية كانت تُزين صالون بيتها بالعاصمة التونسية بصورة للشيخ ابن باديس، وأنه عرف فيما بعد أنها السيدة يامنة الزوجة السابقة للشيخ ابن باديس التي تكون قد استقرت بتونس بعد طلاقها من ابن باديس.
 يتبع
رحلة الدراسة إلى تونس في الحلقة الثانية

الحلقة الأولى