في ظرف زمني قصير، استطاع فيروس مجهريّ غير مرئيّ أن يسرق سكينة وطمأنينة البشرية جمعاء ويحوّل حياتها إلى ما يشبه الجحيم. فالوباء الذي نشره هذا الزائر اللّعين، ماض في خرق حدود الدول وتحطيم جدران البيوت ليصيب الآلاف ويحصد أرواح المئات في يوم واحد، ما حوّل حياة الناس إلى كابوس حقيقي.
الكلّ ينتظر دوره للسقوط في فخّ هذا الوحش المميت، الذي لا يفرّق بين كبير وصغير، بين غنيّ وفقير، حتى أنّه «عولم الوباء» والمنيّة أيضا، التي لم تعد تستوطن مناطق التوتّر والحروب وتسكن بين جنبات شعوب البلدان الفقيرة فقط، إنّما امتدّت لتوسّع جغرافيتها على مساحة الكرة الأرضية جمعاء، ليذوق الجميع طعمها المرّ، سواء الذي يقع تحت نيران القصف في سوريا واليمن وليبيا، أو الذي يقيم في أغنى البلدان ويسكن بأعلى الأبراج وأفخم القصور.
كورونا الذي أسكن الرّعب في نفوس وأفئدة البشر «دمقرط» الوجع ووزّعه على الجميع، ربّما حتى تدرك شعوب العالم الأول المرفّه، المتعالي، ويلات ما تقاسيه شعوب العالم الثالث وما دونه، مع النزاعات المسلّحة والأوبئة الفتّاكة وتسلّط الجماعات الإرهابية التي تسفك الدّماء بأبشع الطرق والتفاصيل، دون الحديث عن ما تسبّبه التدخلات الخارجية من نهب لثروات هذه الشعوب، ليزجّ بها في دوّامة الفقر والجوع والمرض الذي يحصد لوحده أضعافا مضاعفة لما حصده «كوفيد-19» حتى الآن.
الجائحة اللّعينة التي سكنت البلدان والأبدان بدون موعد ولا استئذان، حوّلت العالم إلى قرية صغيرة من الخوف والمعاناة، وإلى جبهة لمقاومة الوباء، الذي سيعيد بكلّ تأكيد النظر في الكثير من الثوابت والمسلّمات، سواء على مستوى الأفراد أو الدول. ولعلّ أبرز التغييرات التي سيحدثها، إعادة النظر في مسألة الحروب التي تفتك بأكثر من دولة وتسرق حياة ملايين الأفراد. إذ من المؤكد أنّ العالم ما بعد كورونا والذي يكون قد تجرّع مرارة الموت والفزع، سيجنح إلى إنهاء النزاعات المسلّحة ووقف سفك الدّماء، فلا شيء يساوي حياة البشر وعيشهم في أمن وسلام.
فيروس كورونا، الذي تغلغل في كلّ زوايا الأرض، يكون أيضا بصدد كتابة فصل جديد من فصول العلاقات الدولية، التي ستتبدّل مفاهيمها وتتغيّر موازينها لتختفي تكتّلات وتنمحي اتحادات. فالوباء القاتل، كما نتابعه حاليا، ماض في زعزعة أركان الاتحاد الأوروبي، أقوى وأعرق تكتّل وحدوي في العالم، وقد لا يمضي وقت طويل لتتبع دول القارة العجوز خطى بريطانيا وتعلن الانفصال والخروج من هذا البيت الذي ضربه «زلزال» كورونا في مفصل، فتصدّعت جدرانه وأصبح آيلا للسقوط.
ونرجّح عودة قويّة للدّولة الوطنية، وازدهارا للقوميين الذين سيستعيدون زمام المبادرة عبر مختلف أرجاء العالم.