طباعة هذه الصفحة

وقفة إيمانية

الديــن المعاملــة

الدين المعاملة، تعبير شائع يتداوله خاصة الناس وعامتهم‏، فحين يُقال فلان متدين‏، كثيرًا ما ينبري أحدهم ليقول الدين المعاملة كأنَّه يُشير إلى عدم إخلاصه في ذلك الدين‏، وهذا أمر صحيح‏، تؤيِّده دلائل كثيرة‏؛‏ وليتضح الأمر، فإنَّنا نودُّ الإشارة باختصار إلى مفهوم الدين ومفهوم المعاملة‏.
أمَّا الدين فقد وردت له معانٍ عديدة في القرآن، من أهمها معانٍ خمسة‏، الأول‏:‏ الدين‏:‏ يعني‏:‏ التوحيد‏، كقوله في آل عمران‏:‏ {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}، (آل عمران الآية 19)، والثاني‏:‏ الدين‏، يعني‏:‏ الحساب‏، كقوله تعالى في فاتحة الكتاب‏:‏ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، (الفاتحة الآية 4)‏،‏ الثالث‏:‏ الدين‏، يعني‏:‏ الذي يدين الله به العباد‏، فذلك قوله عزَّ وجلَّ:‏ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ}، (التوبة الآية 33)‏،‏ الرابع‏:‏ الدين‏، يعني‏:‏ الملة‏، كقوله‏:‏ {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}، (النحل الآية 123)‏،‏ الخامس‏:‏ الدين يعني‏:‏ الحكم‏، كقوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}، (يوسف الآية 76) يعني‏:‏ حكم الملك وقضائه‏.‏ والمراد بالمعاملات الأحكام الشرعية المتعلقة بالأمور الدنيوية المتعلقة بتبادل المنافع والطيبات بين الناس‏، كالبيع والشراء والرهن و‏...‏ إلخ‏.‏
ولا نقصد أنَّ الدين كله ينحصر في المعاملات الحسنة‏،‏ وأنَّ الإنسان إذا كان حسن المعاملة مستقيمًا فيها فلا داعي لأن يصلِّي أو يصوم‏، لا، بل نقصد أنَّ تمام الدين وكماله وتأثره‏، يقوم على الإنسان بصورة عامة‏،‏ فمن حسنت معاملته مع الناس فذلك دليل على حسن دينه‏، واستقامته‏، وحرصه على إرضاء ربه‏.‏ أما المعاملة بمفهومها العام فيحكمها مبدآن أساسيان‏:‏ أولهما‏:‏ عامل الناس بما تحب أن يعاملوك‏.‏ وثانيهما‏:‏ خالق الناس بخلق حسن‏.‏ وقد خُصصت كتب الفقه للمعاملات بمفهومها الخاص، كتاب المعاملات، حيث يبحثون فيه فقه البيع والشراء والشركات‏...‏ إلخ‏.‏ فالمعاملة التي تظللها خشية الله‏، وترسم معالمها قيم الدين‏، تجعل صاحبها بعيدًا عن الجشع والطمع‏، والرغبة في إنفاق السلعة بالأيمان والمبالغة في بيان مزاياها‏.‏
والمعاملة التي يقوم بها ذو الدين لا تتقبل تجاوز السماحة‏،‏ فصاحب الدين سمح إذا باع‏، سمح إذا اشترى‏، سمح إذا اقتضى،‏ حين يأتي المشتري إليه لا ينظر إليه على أنَّه مجرد فرصة يغتنمها للحصول على أكثر ربح ممكن‏، بل إنَّه أخ ينبغي أن يُعان‏، وأنَّ من هو الآن مشترٍ لسلعة‏‏ سيكون بائعًا بعد قليل لسلعة أخرى يحتاجها البائع الحالي‏،‏ وحين تسود في المجتمع أخلاق السماحة‏‏ ومبدأ «أحب لأخيك ما تحب لنفسك» فإنَّ التعامل بين الناس لن يكون فيه مغالاة‏، ولا رغبة في الاستغلال والغش لتحقيق الربح على حساب الآخرين‏.‏
كيف يعيش الإنسان سعيدًا وهو يرى أنَّ رفاهيته قامت على فقر غيره‏، وأنَّ سعادته بنيت على شقاء الآخرين؟ كيف يهنأ بعيشٍ مَنْ غشَّ في طعام أو شراب أو دواء؟ كيف ينظر إلى زوجه وأبنائه حين يعلم أنَّ أرباحه دخل فيها الحرام؟‏!‏ لا شك أنَّ مَنْ يفعل ذلك عامدًا لا يعمر الإيمان قلبه‏، لأنَّ قلبه قد احتله شيطان الجشع‏،‏ ولا يمكن أن يكون لديه انتماء لمجتمعه‏، بل إنَّه يعبد المال ويتشبث بفرديته وأنانيته‏،‏ وهذا النوع وإن عاش بين الناس - في الظاهر- لكنَّه في حقيقة الأمر يعيش حالة اغتراب‏، إنَّه مريض في حاجة إلى علاج‏، ولا يُعالجه شيء مثل ما تعالجه يقظة الضمير‏، والعودة إلى ذاته ومجتمعه‏، وتجاوز حالة الأنانية والفردية‏.‏ وآنذاك سوف تُسعده بسمات الأطفال‏، وروابط الأسر المتينة التي لم تقضِ أوقاتها في شقاء نتيجة غلاء الأسعار‏، أو الوقوع في براثن الأمراض التي ما كان لها أن تتفشى لولا الفرديَّة والجشع‏، وانعدام الروابط السليمة بين الناس‏.‏