طباعة هذه الصفحة

قصة

المصباح

فاكية صباحي الجزائر من مجموعة نوافذ موجعة: الجزء الثاني

دخل متثاقلَ الخطى..مطاطأ الرأسِ وقد وشّحتْ وجهه ملامحُ التعبِ وهو يلقي السلامَ مبعثرا بين يدي صاحبِ المحلِ عبارةً كادت أن تكون توسلا:
سيدي لقد جربت هذا المصباحَ الذي ابتعتهُ منذ قليلٍ لكنه يبدو.....
وقبل أن يكملَ حديثه صرخ في وجهه:..ماذا تعني..؟
إن هذا المصباحَ مثلُه مثلُ غيره من الأشياءِ الرفيعةِ التي يقتنيها الناسُ من محلي قبل أن يطرقه أمثالك؛ ولم يصادف يوما أن تجرأ من يعيبُ سلعتي المشهودِ لها بالجودةِ والتميز..
ما بك يا هذا ألم تعرفْ بعدُ من أكون..؟
صمت الرجلُ على مضضٍ..ثم لفظَ ما لم يعد يتمالكُ نفسه ليخفيَه:
أقسم أنني وجدتُه تالفا بمجردِ أن أخرجتهُ من العلبةِ لأعيدَهُ إليها؛ وآتيكَ به مباشرةً قبل أن يطويني الليلُ بدجنته.. وإن لم تصدقني.. دونك اِبني..اِسأله..
ضحِكَ صاحبُ المحلِّ بصوتٍ فظٍ وهْو يردُّ عليه باستهزاءٍ..ماذا...أسأل اِبنك..؟
لقد رميتَ المرمى القصيّ أيها المتسول..ما رأيك لو أعطيتكَ مصباحا غيرَه حتى لا تقضي ليلتَـك تناغي أوتارَ الظلامِ مع اِبنك المعتوه هذا..
قال الرجلُ منكسرا: ..لا يا سيدي سوف أعطيكَ خمسةَ دنانير نصف ثمنِ المصباحِ حتى نتقاسمَ الخسارةَ معا..
فازداد غضبُ التاجرِ وأخذَ المصباحَ من يد الرجل ورماهُ على الأرض.. لينصرفَ هذا الأخيرُ ململمًا أطواءَ وجعهِ وقد غارتِ الكلماتُ بجوف صمتِه ليصعبَ عليه الإمساكُ بتلابيبــها؛ وهو يشعرُ وكأنّ كلَّ توسلاتِه تترددُ بعمقِ الفراغ..ولن ينوبَه منها سوى رجعِ الصدى..وقد امتزج عرقُ الحياء بصقيع الوجع..ذاك الذي لم يؤازرْ وعيَه برشفةِ تجاهلٍ لما ثقبَ سمعَهُ وهو في أمسِّ الحاجةِ لنورِ مصباحٍ بالكادِ يوفّر طفيفَ ثمنه..انتظر لحظة ثم مضى وهو يردد في صمته:..»حسبيَ الله ونعم الوكيل»، وما لبث أن دلف إلى المسجد المجاور في انتظار قيام صلاة العصر وقد جذبه صوتُ الإمام الجليل، وهو يحدث طلابه بهدوئه المعهود قائلا: كم من شرارةٍ تنفلتُ من سياطِ ألسنتِنا ـ نحن معشر البشرِ ـ على حين غفوةٍ من ضمير ٍ كي تحرقَ صدورَ الآخرين..وتنثرَ حقائبَ عوزِهم على الملأ..وتجلدَ خطاهُم العارية وهي تبحث لها بين الشوارع والطرقات عن بعض دفء استرقته منها يد الأيام..فانشرح صدر الرجل..وابتسم بسكينة وهدوء..وكأن الحديث موجهٌ إليه..بينما راح التاجرُ يذرعُ محلَّه الواسعَ جيئةً..وذهابا..وهو يَكيلُ أنواع الشتائمِ لأولئكَ الموجوعينَ الذين كثرَ ترددُهم على محله هذه الأيام..وما كاد الصباحُ أن يمسح عن جفونه غبشَ العتمةِ حتى اهتزتْ أركانُ الحي وقد تساوتْ خبايا المحلِّ بالأرض إثر حريق مهولٍ خلّفته شرارةٌ كهربائيةٌ انفلتتْ من خيوطٍ واهيةٍ تشابكت بواجهةِ المحلِ منذ أمد بعيد..