طباعة هذه الصفحة

أمحمد حميدوش مستشار لدى المؤسسات المالية الدولي:

“الجزائر تخطّت العجز المائي بالرّبط بين السّدود وقنـوات التّحويـل وتعزيــز قـدرات التّخزيـن”

حاوره: سعيد بن عياد

 أصبح العجز المائي من مخلّفات الماضي بعد أن دخلت الجزائر مرحلة ارتياح غير مسبوقة بفضل جملة من المشاريع الضّخمة التي تعكس إنجازات تساهم بشكل ملموس في تنشيط عجلة التنمية بكافة قطاعاتها بما في ذلك الصناعة والفلاحة وكذا السياحة، إلى جانب التموين المنتظم للسّكان بالماء الشروب.

ولم يعد الموضوع ينحصر في دائرة القطاع نفسه وإنـّما تحوّل إلى مادة تثير النقاش بعد أن انخرط في الديناميكية التنموية كمصدر لطاقة تضاهي مختلف أنواع الطاقة الأخرى، خاصة بالنظر للدور الذي يلعبه الماء في الفلاحة، ممّا يعيد الاعتبار لكل قطرة منه بما في ذلك المياه المستعملة أو الملوّثة التي يتم إعادة رسكلتها وتصفيتها لتعود إلى دواليب الاقتصاد كعنصر مدخل في العملية الإنتاجية. وفي ضوء كل هذا، يقدّم الأستاذ أمحمد حميدوش قراءته للمعطيات والأبعاد التي يكتسيها قطاع الموارد المائية في يومه العالمي من خلال تشخيص الثقل الاقتصادي الذي يميزه مقابل المردودية وأثر نظام الأسعار، إلى جانب كلفة كبار المستهلكين من مؤسسات ومستثمرين وموقع المياه المعدنية ومياه الينابيع في معادلة سوق المياه مقابل ضعف استثمارات المتعاملين المستفيدين، ويتوقف عن اشكالية التسيير والشراكة الأجنبية. وفيما يلي مضمون الحوار.
❊ الشعب الاقتصادي: للموارد المائية ثقل اقتصادي تعكسه الاستثمارات الضخمة التي يراهن على تحقيق مردودية لها، إلى أيّ درجة يمكن الرّهان عليها وما هو حجم الدّور الذي تلعبه هذه الموارد؟
❊❊ أمحمد حميدوش: نذكر بأنّ عددا من الدول مثل ما هو الحال في الجزائر، الصين والهند تواجه عجزا في الماء مع العلم أنّ التضاريس والموقع الجغرافي يجعلها لا تتوفر على كميات معتبرة من الأمطار مثلما هو الحال في دول الشمال كالدول الإسكندنافية وكندا، بالإضافة إلى أنّ استهلاك الماء في تزايد مستمر ممّا يؤدي إلى زيادة في العجز،
والذي يصبح بحد ذاته رهان الأمر الذي يتطلب استمارات ضخمة لا تكون إلا بمقدور الحكومات. بالنسبة للجزائر تدارك هذا العجز بدأ مع الاهتمام أولا بالربط بين السدود حتى يتم التضامن بين جهات قطر الوطن، لأنه لاحظنا أنه من خلال أكثر من 30 سنة كمية الأمطار المتساقطة في الشرق أكبر من الوسط تكاد تكون ظرفية في الغرب، وهذا ما يعني وضع قنوات لتحويل المياه طولها بآلاف الكيلومترات، ناهيك عن المبالغ الخاصة بتعويض أصحاب الأراضي المعنيين بنزع الملكية عند مرور هذه القنوات. وثانيا الاهتمام بتدارك العجز في مجال إنجاز السدود للرفع من قدرات التخزين، وعلى سبيل المثال فالمياه المخزّنة في دول المغرب العربي تعادل 30 مليار متر مكعب (بدون المياه الجوفية)، بحيث يخزّن المغرب 19 مليار متر مكعب على مستوى 130 سدا والذي يطمع من أن يرفعها على 180 سد قبل 2050، بينما لم يكن يتوفر للجزائر خلال سنة 2000 من قدرات التخزين إلا 4,5 مليار متر مكعب، والتي رفعتها بفضل بناء 44 سدا جديدا خلال 14 سنة الأخيرة لتصبح تقارب 7,8  مليار متر مكعب، والتي ترتقب الجزائر من أن ترفعها إلى حجم 9 مليار متر مكعب من خلال الوصول إلى عدد 139 سدا، بينما عدد السدود في تونس بلغ 34 سد وقدرات التخزين ما بين 2 إلى 3 مليار متر مكعب. هذه الأرقام تؤكّد مدى التدارك من طرف الجزائر العجز، والذي أصبح يغطي حاجيات مياه الشروب. نذكر بأنّ حاجيات مياه الشروب في الجزائر تقدّر بـ 6 مليار متر مكعب، بينما القطاع الصناعي يحتاج إلى 1 مليار متر مكعب، وهذا ما يعني أنّ الطلب على ماء الشروب والماء الصناعي جاءت من استثمارات الخاصة باستخراج المياه الجوفية، والتي تمثل 58 % من هذه الحاجيات بينما تغطّي السدود نسبة 42%، وتسجّل بارتياح مساهمة تحلية مياه البحر في مجال إنتاج مياه الشروب، والتي بلغ عددها 30 محطة والتي توفر أكثر من 535 ههكتومتر مكعب في السنة، بالإضافة إلى إنتاج مياه الشروب من تحلية المياه المرة أي الألجة (Saumâtre) أو بما يسمى بنزع المعادن من المياه والمصنفة بالمياه غير المتعاهد عليها (non conventionnel) من خلال 12 محطة لها قدرة توفير 510 ههكتومتر مكعب في الماء المتواجدة في 9 ولايات، وأنّ 35 محطة من هذا الصنف قيد الدراسة والموجهة للجنوب.
هذه الاستثمارات حسّنت مجال توفير المياه الشروب للمواطن، والتي بلغت حجم 178 لترا في اليوم للمواطن في 2014. كما يبقى العجز بارزا فيما يخص مياه السقي للقطاع الفلاحي لأنّها في حاجة إلى ما يعادل 3,2 مليار متر مكعب، والذي لا يمكن من أن يوفره 19 سدا مزاوجا (مياه شروب وسقي)، و15 سدا موجهة للسقي فقط، ولاسيما مناطق الغرب الجزائري وعلى الأخص خط الصومام، الحضنة ووهران.
وفي مجال السقي فإنّ الاستثمارات الخاصة بإنجاز السدود المزدوجة للشرب والسقي والسدود المختصة في السقي فقط سوف تدعّمها استثمارات في مجال إنجاز محطات تطهير المياه القذرة، والتي يبلغ عددها 145 بينما 106 محطة قيد الإنجاز. أما من حيث المبالغ نذكر أنّ ميزانية وزارة الموارد المائية تحتل الرتبة 12 بالمقارنة مع الوزارة ومؤسسات الدولة في مجال التسيير والتي تقدّر نفقاتها بـ 18 مليار دينار. أما الاستثمارات التي قام بها القطاع عرفت ثلاثة مراحل و هي ما بين 1999 ـ 2004، والتي بلغت 655 مليار دينار، والمرحلة الثانية ما بين 2005 ـ 2009 ما يعادل 2143 مليار دينار، والمرحلة الثالثة 2010 ـ 2014 والتي بلغت 2000 مليار دينار، والذي جعل القطاع في مجال نفقات التجهيز يحتل المرتبة الرابعة بنسبة 10% بعد قطاع السكن والطرقات والمنشآت القاعدية، وهذا ما يعني أنّ الاستثمارات في قطاع الري تعادل 4 مليار دولار سنويا.
❊ هل يمكن الحديث عن مردودية اقتصادية لهذا القطاع في ظل تطبيق نظام أسعار مدعّمة، وهل يساعد هذا في جلب الاستثمارات المطلوبة خارج تدخل الدولة؟
❊❊ الاستثمار في قطاع المياه يعني الإهتمام به كمخرجات والمتمثلة في مياه الشروب والماء الصناعي والماء الخاص بالفلاحة من خلال إنجاز السدود، كما أنّ إنتاج الكهرباء هو أحد مخرجات تخزين الماء. وبما أنّ الاستثمارات ضخمة وأن انطلاق السد لا يبدأ عند أول يوم من حفر السد، ولكن منذ الدراسة والتوصل إلى تحديد مكانه مع أخذ بالحسبان العديد من المتغيرات التقنية والتي تدوم عدة سنوات.
في اعتقادي المؤسسة الوحيدة القادرة على الاستثمار في هذا القطاع في ضمن شراكة قطاع عام وقطاع خاص،
وهي شركة سونلغاز لأن عدد السدود التي تنتج الكهرباء عددها 13 سدا وتحفيزها على الاستثمار في مجال إنتاج الطاقة النظيفة ضمن التنمية المستديمة، وهذا التوجه يمكن أن تحله بورصة الجزائر من خلال عرض سندات طويلة المدى من 20 إلى 30 سنة أو فتح رأسمال أمام الشركات المختصة العالمية التي لها قدرات مالية عالية مثل   جنرال إلكتريك الأمريكية، وتجربة أكثر من قرن بهدف تمويل مشاريع خاصة بإنجاز السدود التي توفر المدخلات الثلاثة مع التفكير في تسويق الكهرباء والماء إلى الدول المجاورة مثل تونس وليبيا ومصر ما يفوق 100 مليون نسمة.
❊ يوجد زبائن من كبار المستهلكين كالمؤسسات الإنتاجية في مختلف القطاعات والصناعيين ومتعاملي السياحة، كيف يتم التعامل معهم في وقت يشهد نقصا على مستوى ثقافة اقتصاد الماء لدى المواطن، وهل يعدّ اللّجوء إلى رفع السعر واحدا من الحلول الممكنة؟
❊❊ في المجال الصناعي الأكبر استهلاكا للماء القطاع الذي ينتج الطاقة بينما القطاع الصناعي قد يستهلك 10 % من إنتاج الماء الموزع وعلى سبيل المثال لإنتاج كلغ واحد من الحديد يتطلب من 300 إلى 600 لتر ماء، بينما إنتاج واحد كلغ من الورق يتطلب 500 لتر ماء، أما إنتاج كيلوغرام من الكرتون فيتطلب من 100 إلى 400 لتر ماء بينما إنتاج واحد كيلوغرام من الإسمنت يتطلب 35 لتر ماء، أما إنتاج كيلوغرام من الصابون يتطلب من لتر إلى 35 لتر ماء على عكس إنتاج كيلوغرام من البلاستيك الذي يتطلب ما بين لتر ولترين،وبالتالي الحاجيات تختلف من قطاع إلى آخر مما يجعل المقاولون يأخذون بعين الإعتبار تكلفة الماء في العملية الإنتاجية والاختلاف يكمن من حيث الإستغلال، والذي يكون من شبكات توزيع المياه أو تكون من خلال حفر بئر على مستوى المؤسسة، وقد تصعب المهمة على المقاول عندما تكون المياه تحتوي على معادن لا يمكن إدراجها في سيرورة الإنتاج، وبالتالي الحل يطرح على مستوى المؤسسة والإجراءات الخاصة بتراخيص استغلال المياه الجوفية.
وبخصوص التساؤل عن رفع السعر وكيفية  مواجهة المسألة، فإنّني أعتقد أنّه لا يمكن أن نبقى على هذه الأسعار، وعلى سبيل المثال السعر المتوسط للمياه الشروب والتطهير تقارب 3,81 أورو للمتر المكعب أعلاها في الدانمارك،
والذي يقارب 6,55 أورو وأدناه في إيطاليا بـ  1,12 أورو للمتر المكعب، فإن الأسعار غير حقيقية، وهذه الأسعار لا تتنافس مع الأسعار الحقيقية التي أشارت إليها وكالة توزيع المياه (ADE) على أساس 39 دينار للمتر المكعب،
 بالرغم من أن التسعيرة للحصة الأولى تمثل 6 ,3  دينار للمتر المكعب، في الحقيقة يجب التفكير في رفع الأسعار تدريجيا على المدى الطويل وفق سببين الأول أن الاستثمارات في قطاع الماء تمولها الاقتطاعات من المحروقات ويجب أن يمولها المستهلك المباشر، وبالتالي التفكير في التزايد تدريجيا على مدى 25 سنة.
والسبب الثاني عند الدفع الحقيقي لسعر الماء يصبح المواطن يتصرف بأكثر عقلانية، وبالتالي يقتصد الماء ويطلب أحسن خدمة من المؤسسات المعنية بذلك ويصبح معني عندما يلاحظ ظواهر التبذير مثل حالة حدوث انكسار في قنوات نقل المياه الشروب.
❊ فيما يخص المياه المعدنية أو مياه الينابيع والتي تبدو أسعارها لا تتطابق مع كمية وجودة المادة، أي وجود فارق بين السعر والكلفة، ولماذا لا يلزم أصحاب الشركات المستفيدة من رخص استغلال المياه الطبيعية باستثمار جزء من الربح في إنجاز بدائل استراتيجية مقابل ربحية السوق المضمونة بالنظر لارتفاع حجم الاستهلاك؟
❊❊ الجزائريون لم يصلوا إلى ثقافة استهلاك ماء الطاولة خارج الحنفيات لأنّنا لم نصل إلى الحد الذي يجعل المخاطر الصحية في استهلاك المياه الجوفية بسبب مادة النيترات (nitrates) مثلما هو الحال في الدول الأوروبية بسبب استعمال الأسمدة في الزراعة، ولكن هذا القطاع الخاص بإنتاج هذه الأصناف من المياه المعدنية ومياه الطاولة لم يتم تنظيمها بصفة نهائية لأنه لا يمكن تنظيم هذه المهنة من خلال مراسيم، وإنما تتطلب إعادة النظر من خلال إصدار قانون خاص بهذه المياه مما يتطلبه من حقوق وواجبات لكل الأطراف المعنية، والتنسيق مع الدوائر الأخرى في مجال إعداد هذا القانون وهم وزارة التجارة (حماية المستهلك)، وزارة الصحة (البحث والتدقيق الصحي) ووزارة الفلاحة.
❊ بالموازاة يثير التسيير بالشراكة الأجنبية جدلا في الأوساط المهتمة، برأيكم ماذا حقّق وهل يمكن الاستغناء عنه بالنظر لما يتوفّر من قدرات وطنية من كفاءات جامعية وخبرات مؤهلة؟  
❊❊ ينبغي الإشارة إلى أنّ تفويض المصالح العمومية للمياه والتطهير كلّف ميزانية الدولة خلال 2011 بالنسبة لشركة تسيير المياه في الجزائر 15 مليار دينار، وشركة تسيير المياه في الغرب 7 مليار دينار، وفي الشرق (قسنطينة) 7,5 مليار دينار. هذه المنح يمكن للشركات المعنية من إمضاء عقود تسيير خدمات المياه والتطهير مثلما هو الحال بين شركة الجزائرية للمياه SEAC والشركة الفرنسية SUEZ، والتي تهدف إلى جلب الحلول المستديمة لتحسين بصفة فعالة نوعية الماء الموزع وتحويل المعارف والتكنولوجية، والذي يمكن بدوره من تطوير القدرات والذي انبثق عن اتفاق الشراكة، تكوين 3000 عونا لشركة (SEAC) ووضع تحت تصرفها أيضا خبراء ومسيرون لنشر سلوك التسيير والإدارة العقلانية للموارد مع تطوير مشاريع أفقية مثل تطوير نظام المعلومات والمراقبة الآلية، وكذا الإنتماء إلى الشبكة العالمية للبحث والتطوير، والولوج إلى بنوك المعطيات العالمية للاستعانة بالخبرات الدولية في مجال الدعم عند الأزمات، وأخيرا التزويد بالتجهيزات الحديثة مثل معدات وبرمجيات والمناهج الخاصة بالوحدات العملية في الميدان. هذا هو المنتظر من الشراكة في مجال عقود التسيير مع الفرنسيين، والسؤال الذي يبقى مطروحا من الجهة المسؤولة عن التقييم حتى يمكن تحدد باقي المسار؟