في الوقت الذي انتشرت فيه الرواية في السنوات الأخيرة بشكل ملفت للنظر، تقلّصت مساحة الشعر في المشهد الثقافي العام وبشكل غير مسبوق هوالأخر، مما يطرح العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام، خاصة وأنّ المجتمعات العربية لها تاريخ مع «التفعيلة» التي ألف الشعراء موسيقاها من خلال الآلاف من القصائد وبقي العامة يتداولونها عبر مئات السنين..إذا، الكثير من علامات الاستفهام تطرح اليوم حول أسباب هذا التراجع، هل مردّها إلى تردي الذوق العام أو صعوبة النشر وغياب الترويج للدواوين الشعرية أو إلى غياب النقد الأدبي، أوبسبب ندرة الفضاءات الثقافية من جهة وعدم تنظيم المهرجانات الشعرية. البعض من هذه الأسئلة أجابت عنها الشاعرة صليحة نعيجة في هذا الحوار الذي خصت به جريدة «الشعب».
- الشعب: نتحدّث اليوم عن تقلّص مساحة الشعر مقارنة بالأشكال الأدبية الأخرى كالرواية مثلا، كيف تفسّر الشّاعرة صليحة نعيجة هذا التّراجع؟
صليحة نعيجة: فعلا..أضحى المشهد الشعري باهتا وشاحب الوجه عكس السنوات العشر الأخيرة. لقد صار الشعر محتشم الحضور سواء بالطبع أو المهرجانات الشعرية أو حتى بالأمسيات المنفصلة..هناك عزوف مريع للمبدعين والجمهور حتى الفاعلين الحقيقيين لتنشيط وتلطيف مناخات الثقافة بزاوية ما من المشهد تخلى عن هذا الرافد الملهم والنهر الرقراق المنبعث من منهج تتنفس بالقضايا والمواقف والاحتجاج.
الشعر مرادف للحياة، مرادف لصيق بكل شرايينها وأوردتها بكل أرصفة العمر وتفاصيل المدن والأزقة والقرى والعالم عندما يسكت صوت الشاعر يغيب صوت الضمير الجمعي، الذي يؤرخ للراهن بقضاياه وفلسفته، وأنين مبدعيه ومواطنيه ورؤى حكامه ومحكوميه.
الشّعراء كانوا دوما رفقاء الساسة والقادة والبؤساء والحكام والأباطرة والمعارضة، فعندما يخفت صوت هؤلاء فثمة شرخ وصدع ما بجدار البيت الشعري الذي يؤمن بالاختلاف والحوار، وبعد النظر والرؤى في استشرافها للمستقبل البعيد القريب.
الشعر رؤية واستشراف للمستقبل لكن للأسف هجروه واستقرّت معظم الأسماء بين ضفاف فنون استقرت بين أحضان الرواية والمسرح لأنّهما أكثر طلبا واستقطابا للجمهور ومدرا للمال ويحظى بقبول الناشر..الناشر هو أول من شارك بهاته الجريمة ألا وهي تقليص الفرص للشعر وواقعيا غابت الأمسيات وأفل نجومها الشعراء، فهم منهمكون مع أطروحات الدكتوراه والمحاضرات النظرية ولم تعد معاهد الأدب العربي تفرخ شعراء وتكتشف الأسماء الجديدة مثلما كانت تفعل..أحيانا أنبهر بتلاميذي أنفسهم يفاجأونني برواية جاهزة للطبع ولم أجد بينهم من حاول مع الشعر. لا أدري إلى أين نمضي؟ ومن الذي ذبح الشعر بعقر أمصارنا العربية؟
- بقي الشّعر حبيس المهرجانات والمناسبات القليلة فقط،كيف يمكن النّهوض به مجدّدا وعلى أوسع نطاق؟ وهل يمكن الحديث اليوم عن تردّي الذوق العام؟
هل تعرف أنه بدول العالم الأخرى يتنقل الشاعر إلى العالم وليس العكس. نعم بمهرجانات عالمية كبيرة يتنقل الشاعر للمدارس الابتدائية والحدائق والحقول والبراري مثلما أخبرني الشاعر الفلسطيني فخري رطروط المقيم بـ «نيكاراغوا»، وقد تفاجأ بقصائد طويلة لمحمود درويش يحفظها معلم الابتدائية عن الاسبانية عن ظهر قلب ويلقنها لتلاميذه فيحفظونها كاملة. المهرجانات الكبرى بالعالم تحرض على القراءة على القارب، وهو ينتقل من ضفة الى أخرى ومن شاطئ لآخر كما بمهرجانات «سيت» بفرنسا..كذلك بعض التظاهرات بإسبانيا تكون بالمقاهي وأخرى بالفنادق لتفتح فضول العابرين على لغة المحبة والسلام والاختلاف.
الشعر بالدول الأخرى مفتوحا على العالم وعلى الطبيعة والناس، لهذا نجدهم أكثر انبساطا للأسارير عكس تجهم الشاعر الجزائري أمام شح المبادرات وانكفاء هؤلاء على أنفسهم وذواتهم خدمة لمصالحهم الخاصة لإرضاء بعض الجهات..لا أحد يفكّر بالشعر كحاجة أولية تماما كالخبز والماء والهواء، لا أحد يراه مضادا للاكتئاب، فعوض السفر لأغيّر المناخ تكفي أمسية واحدة لترطيب أجواء القلب والعلاقات بين الناس لأنه لغة التسامح والمحبة والوفاء...نحن نكره بعضنا ونعرقل بعضنا ونحرم بعضنا فرصة التلاقي ولو على الحرف حتى المهرجانات الكبيرة أوقفت بفعل فاعل كمهرجان محمد العيد آل خليفة ببسكرة وملتقى مالك حداد بقسنطينة، الذي أضحى في خبر كان..لا أحد من قسنطينة فكّر باستعادة هذا المهرجان الوطني الكبير.
ربما حاول ــ منذ مدة تقارب 10 سنوات ــ المبدعون استقبال الربيع بمدينة «تيديس» الأثرية، ولكن المبادرة لم تعمّم على الأماكن العامة الأخرى كـ «جنان بن ناصر» أو ساحة قصر الباي وحتى نصب الموتى. وأنا عندما أتحدّث عن هاته الفضاءات بقسنطينة فهي إسقاط لكل المدن التي تملك فضاءات أرحب وأنسب. وأعتقد أنّ هذا العام سيعزّز الشعر مجددا بمهرجان الشاطئ الشعري، وهي فكرة وتأسيس الشاعر «عاشور بوكلوة»، ولقد نجح نجاحا باهرا في استقطاب أسماء كبيرة شعرا ونقدا على المستويين الوطني والعربي منذ أكثر من عقد، ونتوسّم خيرا في أدباء سكيكدة الذين أراهم أكثر إصرارا وراء أحلامهم وبعثها من جديد، وهم من خيرة نخبة الجامعات دكاترة ومبدعين، لكن يعملون كخلية نحل بعيدا عن الألقاب التي دمّرت مبدعين كثر بالجزائر صنعوا لأنفسهم هالة وعازلا عن الجمهور، ممّا نفّر القارئ منهم ومن فضاءاتهم الأدبية، وما صار يبحث عن سماع الشعر فى ظل توفر البديل بالفنون الأخرى.
- انقسم الشّعراء اليوم بين نشر إبداعاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي (غير الأمنة)، وطباعة الدواوين التي لا تتيسّر إلا للبعض فقط ولا تلقى الشهرة المرجوة، هل التّرويج يبقى السبيل الوحيد للإبداع؟
لا يمكن للأديب أن ينجح دون الترويج لأعماله، وهذا ما لا يقوم به جل الناشرين ويرفض الشعراء القيام به بأنفسهم خشية أفول هيبتهم. لا أجد حرجا في أن أروج لعملي على «الفايسبوك»ومواقع التواصل الأخرى..لا أجد حرجا وأنا أدل القراء على اسم المكتبات التي تتواجد بها أعمالي وأوصي بها، لكن للأسف الشعر لا يجد ذلك الإقبال الكبير مع الزخم «الأنترنيتي» العظيم وتدفقها وتوفر المجاميع الشعرية في صيغة pdf لا ننكر أنه من غير الممكن أن نقتني كل الكتب المتوفرة على الساحة وعلى رفوف المكتبات لأن القارئ الحالي صار له شعراءه المفضلين بالقارات الخمس وبلغات أخرى، فمن غير الطبيعي أن نرغمه ونفرض عليه أعمالنا، وهنا تلعب عزة نفس الشاعر دورها، كثيرون يمتنعون عن الترويج لأنفسهم ممّا ساهم في كساد أعمالهم وانصرف الناشر لجدولة أعمال أخرى للموسم الأدبي الجديد لأنه ينظر لمستقبل الدار فهي مصدر قوت أولاده..مرحليا أجد الناشر الروائي «كمال قرور» يقوم بالترويج على أكمل وجه، ويسوق لكتبه وكتابه على الانترنت، وبكل تواضع فهل تظل حماسة الناشر أو تنطفئ جذوتها يوما ما؟ بالدول الأخرى هناك دور نشر تتواصل يوميا مع مبدعيها الشعراء تخبرهم بكل مراحل مخطوطاتهم قبل التصفيف والطبع إلى التوزيع بالمكتبات، وتعلمه بمكان تواجدها بمكتبات أوروبا..تخبره بأسعارها والتخفيضات وفق كل مناسبة..»الإيميلات» اليومية والتواصل اليومي بين القارات، لهؤلاء حرفية التعامل الراقي مع الكتاب على «الانترنت» بأسعار مختلفة عكس الكتاب الورقي، نحن هنا لم نطور رؤيتنا للكتاب الالكتروني ولم نتقبلها بعد؟! مع أن هذا أيسر للشاعر واقل تكلفة وأسرع وصولا لكل جمهور الشعر بالعالم.
أما عن «الفايس بوك» وبأنه غير «آمن» من السرقات؟!، لكنه يوفر حظوظا أجمل للشاعر وخيارات الطبع مع الناشر، فهو يتلقى العقد فيقبله أو يرفضه، لم تعد ظروف الطبع عسيرة بل هي سهلة جدا وتوفر له عناء الطريق والمأكل والمبيت بفندق لأجل توقيع عقد نشر بالعاصمة.
- الافتقار إلى النقد الأدبي الذي انحصر فقط في بعض الدراسات الأكاديمية، من العوامل التي ضيقت مجال الحركة الأدبية، كيف يمكن تعميم النقد عبر الوسائل المختلفة، خاصة الإعلامية منها؟
أقولها بكل صراحة لا توجد حركة نقدية تواكب الزخم الهائل من الكتب التي تصدر باستمرار، أسماء قليلة جدا تجتهد بالرواية أما عن الشعر فهي منعدمة تماما عدا الانطباعات المجاملاتية للأصدقاء فيما بينهم..للأسف لا يوجد نقاد يرافقون النشاط الأدبي الهائل، وهذا الذي أدخل المشهد في فوضى عارمة غريبة الملامح ككثرة دور النشر واستسهال الناس للطباعة لأنه لا توجد مراقبة للنصوص، صار مجال النشر مدرّا للأرباح وفرصة نادرة للشهرة السريعة..إنه استغباء لنا في ظل الظروف السياسية والاجتماعية الراهنة، والتي أفرزت لنا أدباء من طينة أخرى لا تعترف بالنقد والنقاد، ورأي القارئ المستقبلي. كل هاته الفوضى سببها غياب دور الناقد العاقل الذي يصنف النصوص ويحارب الرداءة وينصف المجتهدين، لا يوجد غربال لكل المشهد الأدبي يرافق النصوص قبل أن تصدر في حلتها الأخيرة..سابقا كانت هناك أركان بجرائدنا الأدبية تستقبل نصوص الأقلام الجديدة وتشجعها أو تودعها وتعلن عن تأسفها خوض غمار الكتابة..كنّا نرى أسماءنا المستعارة مرة كل شهر أو شهرين، وغالبا لا يرد صاحب الركن إلا بسطرين أو ثلاثة ليخبرنا بأن رسالتنا قد وصلت لبريد الجريدة ويحثّنا على المزيد من الاجتهاد...لقد ولى زمن الاجتهاد وصار الشعراء الجدد يذهبون لأي اسم أدبي يستشيرونه، وكي يتخلص منهم فينصحهم بالنشر ويمنحهم صك القبول مباشرة ممّا صنع غرور المبدعين الجدد. لا أجد ينصت ويستمع لسلبياته كي يتعلم منها، لا أحد يقرأ للنقاد كي يحاورهم بل صار يحاربهم ويراهم عدوه الأول..القضية شائكة فعلا، لا يمكن أن نقضي عليها بين يوم وليلة. هذا دور المؤسسات النقدية، من أراد الصمود أمام القارئ النوعي عليه ألاّ يستسهل الكتابة وينفتح على تجارب الزملاء ورأي النقاد بالمنصات الأكاديمية التي غالبا تهتم بدراسة حالات شعرية على سبيل المثال فقط.