استغل رئيس أركان جيش العدوان الإسرائيلي أفيف كوخافي الذكرى السنوية لوفاة سلفه الأسبق أمنون ليفكين شاحاك، ليطلق من منبره مجموعة من التصريحات والمواقف التي تتعلق بنذر الحرب القادمة، وشكل المواجهة المتوقعة، وجبهات القتال الجديدة، ونوعية الأسلحة المستخدمة، وفلسفة المعركة العسكرية وآفاقها السياسية، وجوانبها المدنية وآثارها السكانية، فيما يبدو أنها لغة جديدة عليهم، ومفاهيم حديثة عندهم، ووسائل مبتكرة في مفهومهم، لم يكونوا سابقاً في حاجةٍ إلى استخدامها أو التلويح بها، إذ كانوا يتفردون بالقوة، ويتمتعون بالتفوق، ويتميزون بالقدرة على الحسم السريع والنصر الناجز، كما كان لديهم الكي المشل والحقن القاتل، وهو ما لم يعد لديهم ممكناً بعد أن نجحت المقاومة في تجريدهم منها، ومنافستهم وامتلاك بعض أسباب القوة مما كانت حكراً عليهم وخالصةً لهم.
لاقت تصريحات كوخافي التي انتشرت انتشاراً واسعاً على المستويين المحلي الفلسطيني والإسرائيلية والإقليمي اللبناني والسوري والإيراني، أصداء واسعة واهتماماً كبيراً، وأعقبتها مواقف وردود فعل كثيرة، فهي نُذُرُ حربٍ وبياناتُ معركة، ومواقفُ ميدان، يطلقها أعلى مسؤولٍ في الجيش الإسرائيلي، رأس هرم المؤسسة العسكرية ورئيس هيئة الأركان، في ظل وزيرٍ جديدٍ يمينيٍ متطرفٍ ومتدينٍ متشددٍ، تروق له مفردات التهديد وتصريحات الوعيد، ويستخدم مثلها ويشجع عليها، ظاناً بسفهٍ وجهلٍ وغرورٍ وضحالةٍ أنه يستطيع تنفيذها ويقوى على الوفاء بها، وأنه سيكون مختلفاً عمن سبقوه، وأكثر حسماً وأوضح نصراً وأنجز وعداً من أسلافه.
حار المستوطنون الإسرائيليون في فهم تصريحات قائد جيشهم ورئيس أركانه واستيعاب مواقفه، واختلط عليهم الأمر كثيراً بين الطمأنينة والخوف والأمن والقلق، وما إذا كانت تصريحاته التي أطلقها من منبر القوة، رسائل إيجابية لشعبه فيطمئن بأنه وجيشه قادر على حمايتهم والدفاع عنهم، وأنه لن يطالهم القصف ولن يلحق بهم أي ضرر في الحرب القادمة، وأنهم لن يكونوا عرضةً للتهجير والهروب، واللجوء والفرار، وأنه سيكون قادراً على مواجهة كل الجبهات المشتعلة، والرد على المقاومة في سوريا ولبنان وغزة وإيران، وإسكات فوهات اللهب وتدمير منصات الصواريخ، وإرهاب قادة المقاومة وردعهم، وتدمير قوتهم وحرق الأرض تحت أقدامهم.
أو أنها رسائل مباشرة ومقصودة للمقاومة وقادتها في كل الجبهات الشمالية اللبنانية والسورية، والجنوبية في قطاع غزة، والبعيدة نسبيا في العراق واليمن وإيران، لترتدع وتخاف، وتجبن وتسكن، مفادها الصريح أن جيشه سيستخدم ضدهم القوة المفرطة والسلاح الفتاك، وسيضرب كل الأهداف المرصودة بكل شدة وقسوة، ولن يستثني التجمعات السكنية والمناطق المدنية المأهولة، بحجة أن صواريخ المقاومة تخرج منها، ورجالها يحتمون فيها ويختفون بينها، ولذا فإن عليها أن تكون عاقلة واعية، وحكيمة رزينة، حريصة على شعبها وخائفة على أهلها، تزن الأمور بعقلانية وتتخذ قراراتها بمسؤولية، فلا تخطئ ولا تتهور، لأن أي حربٍ قادمةٍ ستكون ويلاً عليهم ودماراً لهم، تطال قدراتهم العسكرية ومجتمعاتهم المدنية وبناهم التحتية.
فهل يظن كوخافي أنه قد أخاف الرجال الذين يعدون العدة، ويجهزون ويستعدون ليومٍ قد لا يكون بعيداً، ويراكمون ويتدربون لحربٍ أكيدةٍ، وأنهم بعد تصريحاته النارية سيتوقفون عن نقل السلاح وتخزينه، وسيقلعون عن فكرة مواجهته، وسيهزمون بالرعب منه، وسيدركون أنهم لا يستطيعون مواجهة هذا الجيش القوي اللجب، العامرة ترسانته والمنظمة قيادته، وأنهم لن يكونوا قادرين على ضرب مناطقه المأهولة بالسكان، وتدمير مستودعاته ومنشآته، واستهداف مراكزه الحساسة ومقراته السرية.
تلك كانت رسائل كوخافي المهزوزة لشعبه والمرتعشة لمحيطه، التي ظن أنها ستصل إلى أماكنها الصحيحة وستؤدي الأدوار المتوقعة منها وستؤتي ثمارها المرجوة، ولكنه نسي خلالها أن المقاومة على كل الجبهات باتت حاضرة وقادرة، وتستطيع أن تنال منه وأن تلحق الضرر به، فهي لم تعد نخاف منه أو تخشى من مواجهته، أو تتردد في صده ورده، فقد أصبحت عليه جريئة وعلى قتاله قادرة، وفي التصدي له ضارية، وفي المس به ذربة، وفي خوض المعارك معه متدربة، ولمواجهته بات رجالها يتوقون وأبناؤها يتنافسون، فسلاحهم مضاء وعزيمتهم عصماء، ورجالهم أشداء وقادتهم حكماء، وحلمهم بمعركة أخيرةٍ وحربٍ فاصلة كبير، ليقينهم أنها الحرب الخاتم والنهاية الأكيدة لكيان بني صهيون اللقيط، فهذه مقاومةٌ عرفت كيف تصنع توازن الرعب، وكيف تخلق معادلات التكافؤ، وكيف تنتزع النصر وتضع نهاية للظلم والقهر.