طباعة هذه الصفحة

الملمح الجمالي في الكتابة القصصية

قراءة في أعمال القاص محمد الكامل بن زيد من الجزائر

بقلم: القاص والنّاقد حميد ركاطة

يرجع اختيارنا في الاشتغال على هذه المجاميع القصصية الثلاث، بحكم أنها متقاربة زمنيا وربما قد تمكّننا من الاطلاع على العوالم القصصية لهذا الكاتب، المتعدد الذي يغلب على اشتغاله هاجس الكتابة بالدرجة الأولى، حسب ما استقيناه من نصوص منتقاة من مجاميعه القصصية القصيرة: «نحت جديد لتمثال أسود، وتجاعيد آسرة، والمشي خلف حارس المعبد». مجاميع تم التركيز في الاشتغال فيها على مواضيع محددة من قبيل: الحلم بين الرمزية والدلالة، وجمالية التصوير داخل النص القصصي، وتنوع الكتابة بين التوليف، والأسطورة، والكتابة النفسية، والمشهدية، والمقطعية لنصوص بنهايات موجعة. لنتساءل بأية خلفية فنية وجمالية كتبت نصوص المجاميع المدروسة.

1  ــ الحلم بين الدلالة والرمزية

1  ــ الحلم المجهض

يبرز الحلم كأحد التيمات البارزة داخل نصوص المجموعة، حلم تجسّد عبر تمظهر مختلف، ففي نص «بين الماء والماء» الذي يرصد من خلاله السارد رحلة مجموعة من «الحراكة» سرا من الجزائر نحو إيطاليا على متن قارب صغير يقول السارد» تلاقت سيقانهم..وعيونهم..انصهرت كعين واحدة ظلت مصوبة في اتجاه حلم واحد لا شيء سواه، وأي حلم؟». ويرصد السارد معاناة المبحرين في تداخلها مع حكايات أخرى يتم صهرها داخل بوتقة الميتاسرد أحيانا بتداخل بوليفوني للعديد من الأصوات «حكايات عبر هذه الأحشاء تفاعلت في بوتقة ذاكرة واحدة وهي الخروج من النص على المألوف». وتتداخل عوالم الحلم بالواقع لتكشف عن حيز مكاني صغير جدا، متحرك فوق الماء، وعن الأحاسيس الداخلية للعديد من المهاجرين السريين» إحساس غريب سيطر على مخيلتهم صورة قاتمة ومتشائمة: هل هذه النهاية؟ هل تبخرت الأحلام؟». وقبيل وصولهم إلى الهدف سيتم اعتراض قاربهم من طرف خفر السواحل الايطاليين ليعلو التساؤل كشفرة حلاقة تمزق صمت الليل «هل انتهى الحلم؟ هل انتهت حكاية مركب صغير مهترئ يعج بأربعين نفرا؟»، وهي لحظات سيتخذ فيها قرار مصيري  لكنه قاتل بعد فرار «الحراكة» الذين سيطلق حراس خفر السواحل عليهم وابلا من الرصاص.
تيمة الحلم المجهض ستتكرر في نص «سقوط أحلام اليقظة» الذي يكشف فيه السارد عن صورة بطل حديث التخرج من الجامعة سيصطدم بعوائق الاندماج المهني، فيقرر ولوج أحلام اليقظة فرارا من قسوة الواقع»، إذ لاحظت أن الكثير من الشباب مثلي مولعون بولوج بوابة أحلام اليقظة...أيقنت أني أصبحت مدمن..أحلام اليقظة»، وهي الصورة التي تقدمها اللوحة الأولى. في حين تشكل اللوحة الثانية محاولة تكثيف واقع أحلام اليقظة وما يتعرض له بطل النص من إكراهات خلال سعيه المحفوف بالإخفاق فاقترح عليه السارد طلب المساعدة» لم لا تطلب من أحلامك المساعدة ثم قفلت مسرعا من حيث أتيت وكلمات اللعين والشتم والوعيد تلاحقني..تلاحق شخصا مجهولا..لعن أحلام اليقظة».
في حين تكشف اللوحة الثالثة عودة إلى الواقع «مهما حلمنا..مهما اخترعنا من أحلام سنبقى على هامش الحياة..مجرد أحلام اليقظة».

2 ــ جمالية العوالم الحلمية

سيعمل السارد على إدراج أكثر من حكاية داخل فضاء الحلم الفسيح، من خلال فتح مسارات سردية باذخة ابتدأت بالحوار مع أشعة الشمس،حوار وظف كمستهل للحلم داخل النص. «قد يكون إحدى حيلها لاصطيادي هي تعانق، وأنا أفارق..حتى أشبع ما لديها من ثروة جنسية شرهة لا تهدأ إلا بوقوفي بين ذراعيها». فضاء الحلم سيشكل سارية أساسية لبناء العالم القصصي، وتأثيثه بالملمح الأسطور يعبر تضمين حكاية «عين الفوارة» بتحولاتها وتطورات أحداثه الغريبة، ليتم الخروج من الحلم المجهض، نحو حلم آخر مرتقب لكنه لن يتغير في الواقع بقدر ما يتجدد بين نفي وإثبات «انتظرت آهاتي المحترقة لأبدأ من جديد حلما ليس كحلم عذراء عين الفوارة حلمي الجديد..هو عذراء عين الفوارة نفسها».

3 ــ تمظهر الحلم المركب

نلج عتبات الحلم المركب في نص «حلم داعشي» بحيث يأخذ تمظهرا مختلفا من خلال تقلباته العديدة. يقول السارد «رأيت فيما لا يراه نائم غيري». ومن خلال أطوار الرؤيا سيبدأ في تحديد مستوياتها «لم أستوعب كيف خطر لي أنني رأيت وجوها، فقد حطر لي أيضا..». ولعل هذا التراكب الحلمي سيمنحنا بناء عالم مفعم بالغرابة من خلال استفهام السارد عن مساره» ساورني شك مريب..هل هذا هو الشارع هو طريقي إلى العودة؟ لا أعرف..وهل يحق لي الهرب..؟ نعم أكيد...»، وفي خضم هذا الصراع بين الشك والاحتمال يقول السارد» خيل لي أنها  أجساد تتحرك..» مع تحول نحو الرؤيا من جديد «فيما أراني أنا وأطفالي متناثرين قطعا قطعا».  
حلم داعشي رؤيا تتخذ زوايا التقاط عديدة، ومن عوالم مختلفة بين الواقعي والخيالي، والعجائبي حيث نلمس في النهاية إشارة غريبة» أسمع أحاديثهم في ما لا يسمعه نائم غيري»، وهو ما يحدد العودة لنقطة البداية «رأيت فيما لا يراه نائم غيري» و»ما لا يسمعه نائم غيري».
بناء دائري من هذا القبيل يعري عن فظاعة حراس النوايا، وعن شماتة الناس العاديين في التقاطهم اليومي للأخبار دون تمحيص مما يجعلهم يمارسون الإسقاط بإطلاق الأحكام على عواهنها» صاحب السيارة داعشي..وقد استحق جزاءه».

4 ــ الحلم إطار للنّص المراوغ

وتتميز بعض النصوص بقدرتها على مراوغة القارئ كما هو الأمر في نص «حلم إغفاءة للبيع»، الذي يدفع بالقارئ نحو أقصى درجات التيه، عبر رسم الأحداث وفق تطور قد لا يستطيع المتلقي التملص من قبضته. لكون النص يستند على بناء درامي ينحو نحو تجريم البطل وإلصاق كل التهم به»، استغربت الأمر حين شاهدت والدي العجوز رفقة إمام المسجد يتقدمهم..هالة عظيمة من الذعر تصاحب خطواته..أمر عبر حركات يديه أنه يرجوهم الرفق بي وأحس بشفتيه تنطقان بهاته الجمل: قد حدث ما كنت أخشاه..فلعنة الكتابة والشعر أخذت به ماخذا».
فالقارئ قد لا يزيغ تفكيره عن تجريم بطل النص، من خلال المشهد السابق، إلا أن ما سيلي من الأحداث سيعصف بالناء الأول لمصلحة بناء جديد والبطل يعلن استسلامه، والنص يلفظ أنفاسه الأخيرة معلنا تحوله نحو مسار مغاير «سمعته بوضوح تام هاته المرة، وأكيد أنتهم ايضا سمعوه معي:
- قلنا لكم..لقد باعوها..».

 ٢ ــ جماليات التّصوير القصصي

تكتسي بعض النصوص جمالياتها من خلال بنائها المشوق الذي يحمل في طياته الكثير من المفاجأة، فبين الأصل والصورة يمتد بون شاسع بحجم الدهشة المفعمة بسؤال قلق. طرحه البطل على المصور في نص «نيجاتيف»، «ونظراته لا تصدق ماهية ما تجسد على الصورة..غير معقول..هذا أنا..أين هو؟؟». دهشة ستحمل إصرارا آخر وتطلعا نحو التأكد بإجبار المصور على إعادة الكرة»، ثم تقدم بانفعال شديد نحو المصور ليجبره على الولوج معه إلى الغرفة السوداء، مذكرا إياه بحرص على إتقان عمله هذه المرة»،
فالاشتغال على الصورة يشغل حيزا مهما في نصوص المجموعة لتصبح في نص «شفاه صغيرة» إطارا لسرد مستقبلي لأكثر من حكاية مستنبطة من واقع الشخوص الذين يوجدون في الصورة الجماعية التي أخذت بالمدينة. صورة كانت صلب حديث بين معلمة وصحفي حول حدث لم يذكره النص «أخذ منها الصورة تفحّصها..كانوا ثلاثين..وقبل أن يسألها مرة أخرى كانت قد غادرت نحو المباني المهدمة وهي ترقص».
فالسارد لم يكشف عن النهاية الموجعة في النص إلا رمزا ومن خلال توظيف زمن الماضي» كانوا ثلاثين» و»غادرت نحو المباني المهدمة»، وبالتالي يتم فتح مسارات النص بالعودة نحو أحداثه الأولى التي كانت ترصد حالة الحبور ولفرح والنشوة الهستيرية التي تملكت التلاميذ قبل الحادث والجرأة التي تملكت بعضهم وهو يهمس في أذنها «نريد صورة جماعية لنا».
في حين يجسد توظيف الصورة في نص «سلفي» الخيبة والامتعاض لكون ذاكرة الهاتف النقال الخاص بالبطل لم تستوعب صورتهم الوحيدة في لحظة اعتقدوا أنها حاسمة، وتاريخية، وغير قابلة للتكرار»تناسوا ما كانوا فيه قبل أن يأتي إرضاء لرغبته الجامحة..أصابتهم نشوة الأيام الخوالي..واستجموا».
صورة السيلفي التي لم تتحقق كان بإمكانها أن تلم شمل عائلة مشتتة في لحظة حاسمة مليئة بالحبور، غير أن البحث عن بدائل لتحقيق الهدف سيكشف أن الصورة الوحيدة المتكررة هي صورة «إيلان» الطفل الصغير الذي جرفته المياه إلى الشاطئ غريقا». وهو ما سيعيد الأسرة إلى سيرها الأولى فظلوا»، واجمين..الأسى الفاضح..يرهق أعينهم الدامعة..تململوا طويلا ثم انسحبوا..لا أحد يشبه الآخر».

٣ ـ الملمح الجمالي في الكتابة القصصية

5  ــ العتبة المظللة

العتبات المظللة هي عتبات تدل على عكس ما يوحي به مضمون النص. عتبة لا يمكن الوثوق بها مطلقا، لأنك ستتيقن في النهاية، أنك كنت من بين ضحاياها، بعدما فرضت عليك العودة إلى نقطة البداية. كما في نص «وجه كرتوني» حيث لا يمكنك من أن تفرق بين الحالات المتعددة لبطل النص بشحوبه القاتل وقد أنهكت جسده وزمنه السجائر، والقلق، وهو في الحديقة رفقة طفلته التي كان مشغولا عنها بالتدخين، وهي تناشده أن يلعب معها أن يحملها «طفلتك الصغيرة تصر على التشبث بكم قميصك أن «احملني» تريدك أن تلعب معها»، وتبدو صورة البطل الصامت الحزين أشبه بتمثال في حديقة عمومية عير مبال بابنته»، ولا كيف أنك لم تنتبه إلى تأوهاتها وعبراتها المسكونة بالحيرة والدهشة».
غير أن هذه الحالة سرعان ما سوف تعرف تحولا جذريا بأن وافق على اللعب مع ابنته «هذه المرة أنا ملك يمينك». وهي اللحظة التي داهمه فيها عدد من الأحداث الموجعة لأشخاص آخرين بين من فقد ابنته فجأة في حادثة سير، وبين من اغتصب طفولتها بتزويجها وهي قاصر. ولعل هذا الاسترجاع هو ما سيذكي أحداث النص وينفحها حياة جديدة من خلال تضمين قصة أحد اصدقائه، كان قد التقى به رفقة ابنته وأودع عنده دمية كان يعتبرها ابنة له، قبل أن يلقى حتفه في نفس اللحظة» يسألك أن تحفظ له ابنته الوحيدة يوصيك بأن تلعب ابنتك معها، وأن تلعب معها..وهو يودعك..قبل أن تدهسه حافلة نقل المسافرين العابرة».
ولعل قفلة نص «أعمى الطريق (انتهى الدرس)» تعيدنا بالقوة نحو عتيبة النص لنفتح قوسا حول ما جاء فيها بين قوسين (انتهى الدرس)، وهو درس كان بليغا جدا من كون عماء الشخص المبصر هو اشد وطأ من عماء الشخص الضرير. عتبة تعيد بالقوة الحدث إلى بدايته من جديد بشكل دائري «طلب منه بأدب أن يعبر الطريق فهو أعمى كما يرى»، تصريح يجعلنا أمام عتبة مركبة من مستويين: مستوى ظاهري مثير للشفقة يقود بدون وعي نحو الإحساس الداخلي، الذي لا محيد عنه كسلوك خير لدى الأفراد. والمستوى الثاني الذي قد لا يعيره القارئ أدنى اهتمام هو ما تمت إضافته لعتية النص بتحفظ بين قوسين، والذي يشكل في نظرنا العتبة الرئيسية للنص التي ظل سؤالها عالقا، من يا ترى من بين شخصي النص من يجسد بالقوة دلالة العماء في الواقع، الأعمى أم المبصر؟

الكتابة النفسية

يتم رصد مسيم هذه الكتابة من خلال حفرها في أعماق نفسية الشخوص، لتكشف عن تذمر وقلق، وغضب عارمين في مقابل إحساس بدنو النهاية التي تملكت بطل النص الذي لم يعد بإمكانه التخلص من كل من « يحمل في يده جدول الديون الماضية ويخاطب صندوق الحسابات بالويل والشتم والحلف بقطع الرقاب» كتابة ستعمل على تشييد معالم نفسية الشخصية القصصية برهبة عالية وإحساس بدنو النهاية» كلما التقت عيناه بهم رأى الموت الزؤام يرسم في الجرح».
إزاء هذا البناء التقابلي يعري السارد عن مواقف متضاربة بين الطرفين، فأصحاب الحق بدوا في عيني البطل المتملص من المعركة « شياطين لا تؤمن بحلف اليمين» وهو ما سيدفع به لأن يختلق لنفسه مسرحا يبعده كل البعد عما يشاهده وبالتالي سيحتد المشهد ببلوغه درجة كبيرة من الاحتقان منذرا بنهاية موجعة يشعر بها البطل، ويدرك تداعياتها البغيضة من خلال لجوئه إلى المقارنة بين وضعه في الماضي وواقعه الحاضر.» فيما مضى يحدث أن يتخل أحدهم ويتوسط بينهم ليحدمن وثيرة الغيظ.. لكن هاته المرة..»
سؤال يظل عالقا في الحلق وسترصد مكوناته الدرامية عبر صورة بانورامية لنبض الشارع ومؤثاته بجمالية يلعب فيها التكرار دورا بالغا ودالا» هاهو الحاج عبد القادر.. يتسلق سلالم المئذنة.. وهاهو سفيان بن الحاج عبد القادر يخرج خلفه في الاتجاه المعاكس.. وها هي صديقة…».
ويكتنف نص « أناكوندا: الأبواب السبعة» غموضا حول مصير بطله والسارد يشيد عوالمها على إيقاع من التوتر والترقب والانتظار القاتل. فبعد تسريح بطل النص من العمل أصبح « يتبادر إلى ذهنه أن هاتفا من السماء يخترق سمعه( ويأمره) سيدي أي الأبواب السبعة تختار»، وهو ما أدخله في متاهة غير مصدق إن كان يحلم أم يعيش الأمر بشكل واقعي مع ما يرافق البناء من تهيأت، إلى درجة أنه لم بإمكانه التحكم في أبعاد الاشياء بشكل طبيعي، ومع تكرار رنين الهاتف سيزداد توترا إلى أن سقط مغمى عليه بعد النداء الأخير يقول السارد» صوت النادل يزلزل المحل يعجل به مديره.. بعدما أمر عامله أن يسرع بإحضار سيارة الاسعاف».
كتابة من هذا القبيل كفيلة بأن تخلق المتعة والتشويق، والأثر الحسن داخل نفسية المتلقي الذي لم تعد النهايات السعيدة تستهويه بالمطلق.

7. الكتابة والهذيان

في نص « المشي خلف حارس المعبد» عودة البطل بعد سفره قصير في حالة من الهذيانأدهش المحيطين والمقربين منه. وهو ما دفع بهم للتساؤل حول الأسباب وق تملكهم نوعا من الشك حول ما حدث» فهذا الذي لذي ظل يحرس معبدهم منذ سنين وسنين حتى أحيطت به الهالة العظيمة.. وكاد أن يدرك النبوءة عاد.. من.. سفره.. زاده الأخير الارتجاف والهذيان».. ويكشف النص عن تحركات مريبة لزائرة غريبة تجرأت على «قرع الأجراس المعلقة فوق الأبواب الموصدة» وهو ما أثار انتباه الجميع ومن بينهم البطل» زاغت عيناه ولم ينبس ببنت شفة بل تسمر في مكانه» ويتم تحديد مكان المعبد قرب المنارة المحاذية للبحر» منارة كان ضوؤها يخدعه لمدة طويلة، فقرر البطل الصعود نحوها بعدما ولاه أحدهم أمر حراستها للتأكد من حقيقتها» فعلم أنه مات منتحرا منذ زمن بعيد.. منذ عشرين عاما». ولعل الصورة التي يرسمها السارد للبطل تكشف عن هذيانه من خلال ما بدأ ينتابه من تهيؤات وهواجس سواء حول ذاته» حتى المرآة.. أيقن أنها فعلت فعلتها..ظلت تصور له كل صباح عالما غارقا في الأوهام» وهي الحقيقة التي سيرفض الاقتناع بها وأضحت تتمثل له تهيؤات عديدة مغايرة للواقع وهو الأمر الذي ظل يتشكل داخل النص كذلك برمزية عالية لايمكن تمثلها دون ربطها بصورة أخرى» عجوز في أرذل العمر تتصدر الجموع حاملة بندقية قديمة»، « لم يستطع جسده أن يقاوم أكثر... ومعه شيدت العتمة أسوارها …».

8. الكتابة المشهدية

تميز نص» ملائكة لا تسكن الأرض» بكتابة مشهدية ظلت متحكمة في رصد الأحداث عبر مطاردة لصيقة من الخلف عملت على اختراق الفضاءين الداخلي والخارجي للحافلة التي تنقل الأطفال في رحلتهم نحو الموت.
فعلى المستوى الداخلي يقول السارد « زينوا السماء بأحلامهم.. وأناشيدهم تسابق الزمن إلى حالة العدم... إصرارهم على مناجاة السائق بأن يسرع المسير ويضغط بكل ما أوتي من قوة على الدواسات»
أما على المستوى الخارجي، فتم الالتقاط من خلال نقل مشاهد مختلفة أثناء عبور الحافلة من» فلاحين يجرون بقراتهم إلى حقولهم المترامية هنا وهناك..إلى سيدات يسقن جلابيبهن السوداء أماهم»
في حين تم التقاط لمشاهد على المستوى النفسي، عبر ما يقرأه السارد على محيا شخوصه» وظنوا للوهلة الأولى والأخيرة أن الحافلة حافلتهم، وأن القطار قطارهم... لا وقت لدينا.. أبواب السماء تنادينا لا تكثرت بثيابنا إن غمرتها الدماء».
فالنص يوقع على نهاية موجعة في محطة تقاطع غير محروسة يقول السارد» يا صاحب القطار المار عبرنا... الشائق لأجسادنا لا تنسوا أن تبلغوا تحياتنا إلى ذوينا… لا تنسوا أن تقرؤوا علينا من سورة التوبة ومن سورة الصمد إلى سورة الرحمان».

9. النص القصصي بين الأسطورة والتوليف

يتداخل الواقعي بالرؤيا بالأسطوري ليشكل حكاية تنتهي بالقصاص من كل الذين تسببوا في الأذى لعازف الناي. ولعل المثير في هذا التشييد هو التساوي على مستوى المساحة النصية التي اتخذها كل جزء من أجزاء النص، والبطل يصور كملاك داخل مجتمع رافض لا يؤمن بعبقريته. مجتمع تعرض فيه للأذى والعنف، والقسوة لتحل بهم جميعا لعنة غامضة وحق عليهم غضب السماء. «هالني ما رأيت..وجدت الأرض خاوية على عروشها إلا من أسراب هائلة من الجرذان تموج كيفما شاء لها... ثم مضيت عائدا أدراجي أعزف وأعزف والجرذان من خلفي منتشية بعزفي» فالتحول في بناء النص من الواقعي نحو العجائبي حدث داخل فضاء الحلم وخلال الغفوة الثانية» في صباح اليوم الموالي وحين عدت بأمر من جاءني صوته في الغفوة الشديدة» وهي البوابة التي منحت تأشيرة العبور نحو العجائبي من باب ربط السابق باللاحق، حين تم إدراج حكاية شهرزاد التي كبلت المتجبر بعد أن « أنهكته السنون العجاف… وشهريار لقي ربه منذ أمد بعيد».
هذا الربط شكل مدخلا سلسا لبناء قفلة عاصفة يتم فيها الانتصار للعزف، كما تم الانتصار من قبلللحكي في الليالي. فإذا كان حكي شهرزاد قد أجل لعنة القتل، فإن الحرمان من العزف للأسوياء « أهل الحي/ الشارع» سيستبدل بالعزف للحيوانات» الجرذان» وتتحقق متعة العازف المقهور بل يستعيد إنسانيته من خلال تلبيته لرغباته المقموعة في الواقع.
فيحين نلمس الاشتغال على التوليف القصصي من خلال نص «حكاية عشق من سيرة إرنستهيمنغواي» حيث تمكن الكاتب من أن يشيد نصا قصصيا من خلال توظيف عناوين أعمال الروائي الامريكي وسيرته عبر سرد أنيق وجذاب تعبيرا عن حكاية عشق.
خاتمة
في الأخير لا بد من الإشارة إلى كون القاص الجزائري محمد الكامل بن زيد يمتلك حسا أدبيا مرهفا، وأسلوبا أدبيا راقيا استطاع من خلال التعبير عن مجموعة من القضايا المحلية والكونية في طابعها الإنساني. نصوص يغلب على مجملها نفسا روائيا سلسا، وملفتا للانتباه، سواء في بناء الأحداث، أو من خلال ما ضمنه من تقنيات ساعدت على إضفاء واقعية كبيرة على أحداث النص.
فالمجاميع المدروسة كشفت عن وعي كبير، وتمكن الكاتب من آليات الكتابة القصصية، وفي جرأته لطرح قضايا بعمق إنساني وارف الظلال.