الكتابة أداة لتعرية الزوايا المظلمة في حياة الإنسان المغاربي
الباحثة و الأكاديمية م سعودة لعريط تدرس بجامعة تيزي وزو كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية حيث أشرفت على العديد من رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه تساهم من خلال مُساهماتها على الصعيد النقدي بإنتقال المُطارحات النقدية إلى مجال تداولي أوسع إذ إختارت لدراسة نصوص روائية مغاربية نسائية منهج الموضوعاتية باعتباره أداة ، لرصد تمثلات الوعي في المنجز الروائي النسوي إذ ما توصلت إليه خلال رصدها لما قدمتهُ الروائياتُ هو غياب الحس النضالي عند المرأة العربية الكاتبة التي تستغل الكتابة على الصعيد الخاص لا العام. لاكتساب مجد سريع و رواج في الأوساط الشعبية . وكان لنا حوار مع لعريط حول خصائص الرواية النسوية المغاربية وما أرادت إضافته في كتابها المعنون بـ(سردية الفضاء في الرواية النسائية المغربية) الصادر من دار الفرات.
كتابك الموسوم بـ(سردية الفضاء في الرواية النسائية المغاربية) مكرس لدراسة أعمال روائيات من بلدان المغرب العربي هل ثمة ما يميزُ الغاية من كتابة الرواية لدى المرأة المنتمية لهذا الفضاء الجغرافي؟
يلقى كتابي الموسوم بالفضاء في الرواية النسائية المغاربية الضوء على أربعة نصوص روائية، يمكن القول أنها تمثل التيارات الأساسية للمشهد الروائي النسائي في المغرب العربي وهي: ( ذاكرة الجسد، لأحلام مستغانمي من الجزائر، عام الفيل، لليلى أبو زيد، من المغرب، نخب الحياة، لأمال مختار، من تونس، رجل لرواية واحدة، لفوزية شلابي، من ليبيا).
إن الهدف من كتابة الرواية والكتابة بصفة عامة عند كل كاتب هو خلق عالم متخيل، وقد جاء هذا النوع من الكتابة عند المرأة المغاربية بالأساس كفعل تحرر واسترجاع للذات والكلمة التي ظلت مسلوب الإرادة و مقموع الصوتِ إلى وقت ليس ببعيد في مجتمعات تغلبت عليها النزعة الدينية والثقافة الذكورية. من المعلوم أن الرواية النسائية المغاربية لم تحقق تراكماً يثبت وجودها الفعلي إلاّ مع مطلع عقد الثمانينات في المغرب و ليبيا و تونس، و مطلع التسعينات في الجزائر إلاّ أن الغاية من الانخراط في الكتابة صارت أكبر، حيث أصبحت أداة لتعرية الزوايا المظلمة في حياة الإنسان المغاربي بطرحها وتناولها للموضوعات الاجتماعية والدينية والسياسية، لتسجل بذلك مساهمة مهمة في رصد ونقد ومواكبة حركية المشهد الحضاري العام لاسيما أن المجتمعات المغاربية، في تشابهها واختلافها، تشهد منذ الستينات تحولات متسارعة.
لماذا جاءَ إختيارك لمنهج الموضوعاتية لمُقاربة الروايات النسائية المغاربية بينما قد يكون النقد الثقافي أكثر مُلاءَمةً للتعاطي مع النصوص المحملة بهموم نسوية؟
إنّ الرواية نوع أدبي مهم، من حيث التعبير عن التحولات الاجتماعية لواقع الإنسان، وأنماط حياته ولابد للمعالجة النقدية لها أن تكون بالضرورة ثقافية خاصة عندما يتعلق الأمر بالرواية التي تكتبها المرأة سواء كانت بمضامين نسائية أو عامة ومفتوحة، وقد كانت مقاربتي الموضوعاتية للمتون الروائية المذكورة تصب عن قصد ووعي في هذا المنحى، إذ يمنح النقد الموضوعاتي حرية كبيرة للناقد ويسمح له بالانفتاح والاستفادة من خلاصات المناهج الأخرى، وقد عمدت في دراستي التطبيقية إلى استعارة بعض آليات التحليل السيميائي، تفادياً للوقوع في التناول الخارجي للمدونة، حيث تعالج السيميائية النص الأدبي كمادة لغوية ملموسة، وبنية يمكن معاينة مكوّناتها، كما حرصت على توظيف بعض المقولات والرؤى النقدية الثقافية لبيار بورديو وعبد الله الغذامي ومحمد أفاية من أجل أبراز الخصوصية والاختلاف في كتابة المرأة المغاربية.
إن النقد الموضوعاتي يهدف إلى كشف البنيات الفكرية للأعمال الأدبية لكنه لا يقتصر على الرؤية الأيديولوجية، بل يتعداها إلى النظر في الموقف الحضاري وذلك عامل مساعد لفهم النص الأدبي باعتباره مستودعاً للأفكار والموضوعات التي تُكوّن صورة عن تجربة المبدع ودراسة الموضوعات المهيمنة فيه تجعلنا نكشف حوافز الكتابة وتعطينا صورة العالم المتخيل للمبدع.
من الملاحظ إهتمامك بمضمون العمل الإبداعي دون التركيز على الخصائص الفنية للنماذج المُختارة هل يمكن فهم ذلك بناء على المنهج المحدد في دراستك، من المعروف أن الموضوعاتية تتخذ من المضامين مُنطلقاً لها؟
كيفما كان نوع المقاربة النقدية فإن الغاية هي قطف معنى النص. وإذا كان مركز اهتمام الموضوعاتية هو الموضوع، فإن ذلك يبدأ من الشكل، وأقصد الألفاظ والجمل والأصوات والحركات والتوترات لأن الموضوع مثلما يؤكد جان روسي(Jean Rousse) يمر من المستوى الدلالي إلى المستوى الشكلي، فالشكل نابع من الأعماق، بمعنى أن الطريقة التي تبنى بها الموضوعات في العمل الأدبي هي التي تحدد خصوصيته، وخصوصية المبدع، فقد تتقاطع الموضوعات بين الكتاب غير أن ما يجعلها تختلف هو طريقة تشكيلها، كما أن اختلاف الكُتاب في وعيهم للموضوعات يفرض اختلافا في طريقة الكتابة. وفي الواقع، دراستي الموضوعاتية للمتن الروائي النسائي المغاربي لم تهمل الجانب الفني، حيث عمدت في مقاربة بنيوية سيميائية إلى رصد البرامج السردية و إبراز الخائص الفنية على مستوى البناء السردي و اللغة والأسلوب. ولعل الاشتغال الشكلي لم يكن بارزا بسبب الحرص الشديد على أن لا يكون ذلك تناولا خارجيا أفقيا متعسفا، إنما نابعا من إنصات إلى نبض النص وروحه.
تشيرين إلى عدم غزارة النتاج الروائي لدى المرأة المغاربية بخلاف ما تتصفُ به حركة الإبداع لدى الكتاب الروائين من الاستمرارية هل يعودُ الأمر إلى أنَّ ما تبحثُ عنه المرأةُ هو مساحة للبوح عن هواجسها ودس ذكرياتها في النص أكثر من احتراف صنعة الرواية؟
لا أعرف كاتبا واحدا يحترف صنعة الرواية، إن جاز هذا التعبير، ونادرا ما نصادفُ أديبا متفرغا للكتابة لأن الأدب في الأقطار العربية لا يضمن العيش الكريم، وبالنسبة للمرأة الكاتبة يبدو الوضع أكثر تعقيدا فهي مطالبة بالإضافة إلى ذلك بأداء أدوار اجتماعية لا تلزم الكاتب الرجل في شيء. إن الثقافة التي نعيش فيها ونكتب بموجباتها تؤثر على كتابة المرأة العربية كما وكيفا والدليل على ذلك أن الكاتبات الجزائريات اللواتي يكتبْنَ باللغة الفرنسية هنَّ الأكثر غزارة و عمقا وجرأة(آسيا جبار مثلا ومليكة مقدم ومايسة باي) أما مقارنة بالرجل فالفرق ما يزال شاسعا من حيث التجربة والتراكم.
يشكوُ مجال النقد العربي من غياب أصوات نسائية وهذا ما حدا بالمرأة الكاتبة للتحفظ على مفهوم الأدب النسائي طالما تؤطره رؤية ذكورية كيف تفسرين عزوف الكاتبات عن الإشتغالات النقدية؟
ليس لدينا حركة نقدية نسائية في العالم العربي، كل ما هنالك بعض محاولات وتجارب أنشأت داخل أسوار الجامعة، قليل منها يستحق التنويه وأغلب الرسائل والأطروحات لا ترقى بالأساس لأن تصدر في كتاب وهي لا تحقق الاستفادة المرجوة منها حتى وإن وجدت سبيلها إلى النشر.
من أهم الناقدات اللواتي أبدينَ الرأيَ حول موضوع الأدب النسائي يظهر اسمُ يمنى العيد، التي أكدت على دور الواقع الاجتماعي في تشكيل كتابة المرأة وإخراجها من الخاص إلى العام وهي لا ترى فيها سوى مجرد فعل انعكاسي لواقع مادي وتاريخي متسم بالاضطهاد والتغييّب ولذلك، تسقط هذه الكتابة، بحسب رأيها، في بحر من الهواجس الذاتية والاعترافات التي يحركها هاجس الصراع ضد الرجل، وذلك ما يجعلها عاجزة عن استيعاب التجربة الاجتماعية والإنسانية بشمولية وعمق ويحدّ من رؤيتها للعالم، حيث تصير الأنا الكاتبة مركز الكتابة، و تصبح الكتابة أداة ً للتحرر الفردي وسبيلا للخلاص من وضع اجتماعي ينظر إليها على أنها قاصرة، ويضعها في موضع التابع للرجل، ولذلك فان التموقع في المجتمع وفتح علاقة تفاعل معه، وطرق قضايا المرأة خارج إطار الفئة هو ما يجعل مساهمتها فعل إبداع راق. كما أن الخصوصية في نظرها زائلة بزوال الظرفية الاجتماعية والحضارية وزوال أشكال القهر المادي و هو طرح لا أتفق معه في بعض جوانبه، لأن زوال الخصوصية أمر غير مؤكد علميا وهو غير كاف لرفض تسمية هذا النوع من الأدب، رغم ظرفيته أو طابعه الانتقالي، المزعوم لاسيما أنّ الكتابة النسائية حقل أدبي جديد، يتطلّب بالضرورة البحث والدراسة، وتسميته تعتبر أمرا منهجيا، وشرطاً أساسيا لمقاربة كتابة المرأة.من الواضح أن الحديث عن تيار نقدي نسائي يبقى غير ممكن الآن لقلة الناقدات المهتمات بكتابة المرأة و لسقوط الأقلام النقدية الموجودة في فخ المنظور النقدي الذكوري. أما البحث عن أسباب هذه الظاهرة فيحتاج إلى دراسة اجتماعية وثقافية معمقة
من الواضح رصدك لتمثلات الوعي النسوي لكن في (ذاكرة الجسد) وهي مدرجة ضمن مجال بحثك يُهيمن صوت الرجل على فضاء العمل كما أن حياة أو أحلام ترمز للجزائر إذن أين صورة المرأة بوصفها تمثيلاً لمستوى مغاير من الوعي؟
هيمن على رواية ذاكرة الجسد صوت الرجل كبطل محوري، ودارت أحداثها حول مسألة خيانة الثورة، وهو موضوع سياسي لم يكتب فيه بمثل ذلك الإبداع إلا الكتاب الكبار. لقد حضرت المرأة في ذاكرة الجسد كرمز للجزائر، ولم أعثر فيها على إيحاءات نسائية تعنى بقضية المرأة، وهو ما يتطابق تماما مع تصريح أحلام مستغانمي في إحدى حواراتها الصحفية، حيث تقول: «لأنني أنثى لا بد أن أثبت أنني قادرة على الكتابة كالرجل، ففي النهاية فإن الأدب النسائي لا يهتم به وهناك نوع من الشفقة عليه(...)وكل ما يقال عن المرأة الكاتبة أنها تتسلى. وفي تعريف ما تكتبه المرأة «بالأدب النسائي» شيء من الإهانة، وهناك من يقول إن المرأة إذا لم تصب في الكتابة فذلك أمر عادي وهي في النهاية غير مطالبة بأن تأخذ نفسها مأخذ الجد، ولهذا هي لا تحاكَم بالمفهوم الأدبي بل بالمفهوم النسائي مادامت «تخربش» لا غير. أنا أريد أن أُحاَكم ككاتبة بدون تاء التأنيث، وأن يحاكم نصي منفصلا عن أنوثتي وبدون مراعاة لأي اعتبار... لأنني أحاول أن أثبت نصي. ولهذا هو مكتوب بصفة رجل»و بالفعل أثبتت أحلام مستغانمي أنها قادرة على الكتابة كرجل، ولكن هل حكم على نصوصها بمعزل عن أنوثتها؟ يبقى ذلك سؤالا مطروحا.
كثيرات هن الكاتبات العربيات اللواتي اعتنقْنَ هذا التوجه كلطيفة زيات، رضوى عاشور، نوال السعداوي وغيرهن ما يعني أن الوعي بقضية المرأة في العالم العربي لم يتعد بعد سقف المطالبة بالمساواة.طبعا إن تعالى الكاتبات العربيات عن الهموم الفئوية للنوع يرجع في رأيي إلى غياب الإرادة في خوض معركة الاختلاف الصعبة، وغير المضمونة ضمن سياق اجتماعي ثقافي ينظر إلى الأنثوية كشذوذ وانحلال أخلاقي، بالإضافة إلى غياب الحس النضالي عند المرأة العربية الكاتبة التي تستغل الكتابة على الصعيد الخاص لا العام. أقصد بالخاص، هنا، المصالح الأنانية والبراغماتية من مجد سريع و رواج في الأوساط الشعبية، لذلك نجدها تسعى بكل الوسائل لإرضاء غرور القارئ العربي ورغباته الإستهامية والعاطفية والفكرية، المتناقضة في غالب الأحيان، أكثر من سعيها إلى تكسير أفق انتظاره والتحليق به فضاء الصدمة.
من خلال دراستك لهذه النصوص المختارة هل لمستِ بلورة وعي مسبق بهموم المرأة لدى هؤلاء الكاتبات المغاربيات ؟
عالجت نصوص المدروسة في هذا الكتاب تفاصيل مختلفة من قضايا المرأة وهمومها في مجتمع ذكوري تكاد تنعدم فيه حقوق و حرية الفرد بصفة عامة، ومن أهم الموضوعات النسائية التي تناولتها رواية «عام الفيل» للكاتبة المغربية ليلى أبو زيد موضوع وضع المرأة المطلقة في مغرب ما بعد الاستقلال حيث يذهب نضالها هباء وتضيع حقوقها كأنها لم تشارك في تحرير الوطن و لم تكن يوما موجودة بالأساس، لينتهي بها المآل إلى اليأس، وتعليق الرجاء كله على الدار الآخرة. في سياق آخر تعالج رواية «رجل لرواية واحدة» للكاتبة الليبية فوزية شلابي موضوع الحرمان العاطفي والجنسي والضغوط النفسية التي تعانيها المرأة العاملة وسط شبكة من العلاقات مع الزملاء الرجال، بينما تعالج رواية «نخب الحياة» موضوع المرأة المتحررة التي لا تشبع من الحرية الجسدية وتطمح للتحرر من كل ما يكبل الجسد من ثقافة وموروث من أجل تحقيق الذات والوجود. بالتأكيد إن كاتبات كأحلام مستغانمي الحائزة على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من السوربون بباريس عن أطروحة موسومة بـ «المرأة والثقافة»، و ليلى أبوزيد التي درست اللغة الإنجليزية والصحافة بجامعة تكساس، وفوزية شلبي التي كانت في فترة من تاريخ ليبيا أمينة اللجنة الشعبية العامة للإعلام والثقافة، وآمال مختار الصحفية التونسية المتمرسة والجريئة ينطلقن في تجربتهن الروائية من وعي مسبق بهموم المرأة وهموم الإنسان المغاربي والعربي بشكل عام. إنهن كاتبات متمردات عن المجتمع والثقافة وعن التصنيف كذلك.
شخصيات المتون المعالجة في كتابك تشترك في الشعور بالاغتراب لأسباب مختلفة هل أردت من خلال مقاربة هذه النماذج الإبانة عن دور الموروث الثقافي في تحديد خيارات المرأة التي تفشل في صياغة مغايرة للجسد كما حصل بالنسبة لبطلة نخب الحياة؟
إنّ الاستقلال بالجسد الفردي وحرية التصرف فيه شرط أساسي لإثبات الحرية الشخصية، لذلك نجد أنه شكّل هاجسا أدبياً و مادة للكتابة النسائية عند الأديبات في المشرق العربي، منذ ظهور رواية أنا أحيا للكاتبة اللبنانية ليلى بعلبكي، كما كان موضوعا رئيسا في الرواية النسائية المغاربية المكتوبة باللغة الفرنسية، مثلما هو في رواية «رجالي» للكاتبة الجزائرية مليكة مقدم. ضمن هذا السياق يرد مفهوم الجسد في رواية نخب الحياة مرتبطا بسؤال المجتمع والثقافة المؤسسة على الحرمان وكبت الحريات الفردية، وقد شكل ذلك منطلقا أساسيا في تحديد مصير الشخصية الرئيسة، و كان سببا في توجيه وعيها بالاتجاه المعاكس وجعلها تنزع إلى التمرّد ومحاولة خرق الفضاء الاجتماعي وتكسير الموروث الثقافي الذي يحاول إخضاع الجسد في قوالبه الجاهزة.