طباعة هذه الصفحة

استفتـــــــاء الفريــــق!!

بــــــــــدأت بالإفـــــــــلان..

بقلم: الدكتور محيي الدين عميمور

بدأت في النصف الثاني من الثمانينيات عملية كان ظاهرها تطورا عاديا لاحتياجات ومعالم المجتمع الجزائري في العشرية الثالثة من استرجاع الاستقلال، بينما كان دافعها الحقيقي خلق قوة سياسية منافسة لحزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الواحد آنذاك، مستفيدة من الترهل الذي بدأ يصيب الحزب نتيجة لسلسلة التصفيات التي تعرض لها ابتداء من نهاية العهدة الأولى للرئيس الشاذلي بن جديد.
هكذا تمّ تشجيع إقامة جمعيات متعددة الاهتمامات أريد لمجموعها أن يُشكل ما اصطلح على تسميته بالمجتمع المدني، وكان الغريب أن المهتم الأول بالقضية كان المدير العام للأمن الوطني، ربما انطلاقا من أن وزارة الداخلية هي المكلفة برعاية تلك الجمعيات.
وبدا أن تكوّن المجتمع المدني كان عملية مفتعلة لم تنشأ كتطور طبيعي لحركية المجتمع، ووصل الأمر إلى وضعية تثير السخرية، فقد تجاوز عدد الجمعيات الوطنية والمحلية نحو 100 ألف، تعيش على ميزانية تقدمها الدولة وتتجاوز 15 مليارا، طبقا لتصريح أدلى به منذ سنوات السيد محمد تهمي وزير الشباب والرياضة.
وعشنا ألقاب مملكة في غير موضعها، فقرأنا، كمثال، عن تكوين الجمعية الدولية للدراسات الإستراتيجية والمركز الأكاديمي العالمي للإعلام الإلكتروني، وهي تسميات لا أساس علمي لها، وتذكر بالألقاب التي أصبحنا نتابعها على شاشة التلفزة من أمثال المحلل الإستراتيجي والخبير الإعلامي والأخصائي الدولي والباحث الأكاديمي وبقية الألقاب التي جعلت كثيرين يفرون من حوارات التلفزة.
وبينما برزت نشاطات تثير الاحترام كنشاط جمعية الوئام في قالمة وجمعية أنغام الحياة في غرداية وجمعيات محلية تتكفل بذوي الاحتياجات الخاصة وأخرى لحماية المُستهلك وجمعيات لا أتذكر أسماءها الآن، كانت هناك صور تثير السخرية مثل جمعية المرأة الريفية التي لا وجود للفلاحات في قياداتها.
وأذكر حالة واجهتها شخصيا في بداية العشرية الماضية، يوم اتصل بي العقيد رشيد عيسات مستشار رئاسة الجمهورية ليوصيني خيرا بجمعية تهتم بالفنون التشكيلية، فاستقبلت مسؤولها ودعمت جهوده لإقامة معرضٍ افتتحته بنفسي، وقلت له يومها بأنه ليس في حاجة لأي توصية لأن من بين التزاماتي دعم هذه الجمعيات.
وبعد عدة أشهر اتصل بي نفس العقيد ليوصيني مرة أخرى بالجمعية المذكورة، ومرة أخرى استقبلت مسؤول الجمعية، وفوجئت عندما طلب مني دعم إقامة ندوة في ذكرى تشكيل الحزب الشيوعي الجزائري، وهو مجال خارج بالطبع عن تخصص الجمعية ولكن ليس لانتماء مسؤوليها على ما بدا لي، فأوصلته إلى باب الخروج، وربحت عداء اثنين.

اليسار واليمين وما بينهما

ويقول عزمي بشارة في دراسة له عن الجمعيات بوجود «توزيع للنفوذ بين القوى الاجتماعية ذات التوجهات الأيديولوجية و السياسية المتباينة، إذ بينما تسيطر القوى الاجتماعية، المحسوبة تقليديا على اليسار، على التنظيمات والمؤسسات العاملة في مجال حقوق الإنسان يتضاءل في هذه وجود القوى الاجتماعية ذات التوجه الشعبي التقليدي والديني المحافظ.
ونجد أن قوى المعسكر الأول تعاني مشكلة أساسية تتمثل في افتقادها غالبا إلى قاعدة اجتماعية واسعة وقوية، بينما تحظى القوى التقليدية بتنويعاتها بقاعدة واسعة بخاصة في الأوساط الشعبية وشرائح الطبقة الوسطى».
وأخذ الأمر صورة وجود سياسي ضاغط في التسعينيات، ارتبطت به، بتعليمات أمنية مؤكدة، كل المنظمات الجماهيرية، وبرز ذلك في  الندوة الوطنية التي رفض عبد العزيز بو تفليقة التوجه لها عند المحاولة الأولى لتنصيبه رئيسا في منتصف التسعينيات.
وبعد فشل التيارات اللائكية التي تتشدق بديموقراطية خاصة بها في فرض توجهاتها اللادستورية، عشنا عملية التفاف تمثلت بداية بوضع عمامة دينية ثم قبعة ثقافية ثم بارتداء برنوس جهادي، لكن البيانات المتتالية لم تخرج ضمنيا عن البيانات السابقة بما تضمنتة من توجهات مرفوضة شعبيا وقياديا.
واليوم، راحت تلك التيارات تبحث عن وجود مؤثر عبر جمعيات المجتمع المدني، يعطيها حق التقدم للسلطة كمُعبّرٍ عن رأي الجماهير، متجاوزة الأهداف الرئيسية التي طُرحت عبر الوطن كله، ومحاولةً، بالضجيج المألوف، إعطاء الشعور بأنها ممثل الحراك الشعبي.
وكانت المشاركة الجماهيرية قد بدأت تتراوح بين الفتور أو مجرد الوجود الفضولي لمتابعة ما يحدث، ومن هنا بدأت العناصر الغاضبة من رفض المؤسسة العسكرية الخروج عن نص الدستور وميكانيزماته في محاولة استيراد تجمعات شبانية مُجَيّشة من ولايات مجاورة للعاصمة لتضخيم تظاهرات عاصمية تحظى بالتركيز الإعلامي من قنوات التلفزة، والأجنبية على وجه الخصوص.
وأدركت السلطات خلفية ذلك، فقررت منع الحافلات المكتظة من دخول العاصمة، والتي عاشت في بداية العشرية، عبر حشود مستوردة، عمليات عنف تخريبية اضطرت العاصميين يومها لمواجهتها بعنف مضاد.
 وثارت ثائرة الأقليات النشطة، وراحت تندد باعتداء السلطات على المادة 55 من الدستور، التي تعطي للمواطن الجزائري الحق في حرية الحركة حيث شاء، وهي مغالطة، لأن المنع يتركز على يوم الجمعة المخصّص للتظاهرات، بعد أن ثبتت نية الافتعال بل والاستفزاز.
والغريب أن الذين يتغنّون بالمادة 55 أقرّوا منذ سنوات قانونا يعاقب من يُغادر البلاد في إطار ما يُسمّى بالهجرة غير الشرعية، وهو قانون غير شرعي تم إقراره استجابة لإرادة السلطات الأوربية، وهو متناقض مع نص المادة المذكورة.
والأكثر غرابة اليوم هو أن نفس من يتحجّجون بتلك المادة هم من  يقولون بأن الوضعية الحالية هي وضعية استثنائية تبرّر الخروج على نص الدستور، وهي ازدواجية واضحة في المواقف.
وبدأت محاولات جديدة للالتفاف حول صلابة موقف السلطة تجاه محاولات افتعال ضغوط جماهيرية تنسب للحراك ما هو بريء منه، وعاد الحديث عن المجتمع المدني.
ويقول محمد جربوعة التميمي في هذا الإطار: «طيلة ستين سنة، كان شخصان يجتمعان ويؤسّسان لشركة وهمية، ثم يستوليان بذلك على أموال بالملايير من الخزينة العامة..كما كان شخصان يجتمعان للإعلان عن نقابة أو جمعية وهمية، يحقّقان من خلالهما مصالحهما ومصالح الدولة العميقة، تلك الجمعيات والنقابات التي تأسست تحت عباءة الجنرال مدين، والتي تسمي نفسها (مجتمعا مدنيا) بينما هي (مجتمع مَدْيَني)».
وتؤكد التطورات ما قاله، فاليوم يبدو الكثير من تلك المنظمات والجمعيات والنقابات التي كانت تحصل على التراخيص والدعم، مجرد أذرع للدولة العميقة ولرؤوس الفساد، يحشدونها لخدمة مصالحهم ومشاريعهم في الانتخابات وغيرها.

النّدوات الضِّرار

تنادى القوم لاجتماع في مقر نقابة تعليمية هلل له البعض، وخرج بورقة طريق تكرر نفس الأسطوانة القديمة التي فشلت التوجهات اللادستورية في فرضها، حيث عادت تتحدث عن مرحلة انتقالية تشرف عليها هيئة رئاسية (معينة لا منتخبة بالطبع)..تتبنى فكرة «تشكيل حكومة كفاءات».
وفهِم كثيرون أن الأوامر قد صدرت لقواعد الدولة العميقة بوجوب التحرك الحثيث لأن هذه الفرصة هي الأخيرة والمصيرية، حيث أنّ أسوأ ما يواجه مشروع الدولة العميقة اليوم هو أنه لا يستطيع الخروج من دائرته الضيقة، رغم محاولات فك الحصار عن نفسه ليظهر كأنه يمثل الشعب كله، بالانفتاح على شخصيات وجمعيات ونقابات وهيئات ولو كانت لا تنتمي عقائديا لتوجهاته.
ومن هنا جاء اليقين بأن الذين يساهمون في إنقاذ التيار الذي عاث في البلاد فسادا، ثقافيا وفكريا وسياسيا، والذين يلقون له حبل النجاة بعد أن حاصرته الأمواج من كل جهة، سيتحمّلون وزرا وعارا تاريخيا لن تمحوه الأيام، ومن بين هؤلاء من ينتسبون للتيار الإسلامي.
لكن ما حاول التيار اللا دستوري بناءه في أسابيع انهار في ساعات، لأن ما بنيَ على باطل يظل باطلا، وهكذا تتتابع التصريحات الصادرة عن جمعيات خُدعت بعنوان الندوة التي عقدت في «الكنابسات»، تعلن تنصلها من البيان الصادر عنها.
وتنشر القيادة الوطنية الموحدة للاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية بيانا تعلن فيه براءتها من بيان ندوة المجتمع المدني، وتتلوها جمعية سواعد الإحسان الوطنية التي أعلنت براءتها من الندوة وبيانها..وتليها الأكاديمية الوطنية لترقية المجتمع المدني.
وهنا نفهم الخلفيات الحقيقية لما قاله رئيس أركان المؤسسة العسكرية الأسبوع الماضي، عندما حذر من النوايا مبهمة الأھهداف التي يسعى أصحابها عن قصد إلى تجميد العمل بأحكام الدستور، ومؤكدا أن القول بأن سلطة الشعب ھفي فوق الدستور وفوق الجميع ھو حق أريد به باطل، وهو يُدخِل البلاد في نـفـق مظلم اسمه الفراغ الدستوري، في حين أن الدستور ھوحضن الشعب وحصنه المنيع ھو الجامع لمقومات شخصيته الوطنية وثوابته الراسخة.
لكن هذا الخطاب تضمن نقطة أثارت الكثير من النقاش، وهي تنديد رئيس المؤسسة العسكرية برفع رايات غير العلم الوطني، انطلاقا من تعهده بحماية التحرك الجماهيري من أي استفزازات تقود إلى نتائج صدامية لا يمكن التحكم فيها.
وثارت ضجة مفتعلة وجدت الفرصة لتأليب توجهات ومناطق معينة على الفريق قايد صالح، بالادعاء أن الراية المرفوعة هي راية ثقافية، وكان الردّ البسيط الذي جسّدته تعليقات متعددة في مواقع التواصل الاجتماعي هو أن التحرك الجماهيري عمل سياسي، وليس تظاهرة ثقافية بأي حال من الأحوال، ناهيك عن أن الراية، التي كان واضحا أن هناك من قام بتمويل وإعداد كميات كبيرة منها وزعت على شبابٍ معظم عناصره ترحب بأن ترفع أي شيء، تلك الراية صممها الصهيوني «جاك بينيت» في الستينيات، وهي الراية التي يرفعها اليوم أتباع حركة «الماك» (التي يرأسها فرحات مهني المدعوم من فرنسا ومن إسرائيل والداعي لانفصال منطقة القبائل عن الجزائر).
ولأنّ حديث الفريق كان على شكل برقيات مختصرة فقد راح المعلقون يحاولون تفسير تلك البرقيات، وخصوصا في مواقع التواصل الاجتماعي.

لمن تحدث الفريق؟

وهكذا قرأنا لمن يقول إنها كانت رسالة مشفرة إلى حركة «الماك» وإلى فرنسا بالخصوص، فقد وصف حركة الماك بالأقلية القليلة، ليُفهم أنه لا يقصد الأمازيغ الأحرار.
ورأى بعض الرفقاء بأن إشارة الفريق للراية جاءت في غير توقيتها، لكنني أرى العكس، وأتصور أن المؤسسة العسكرية أرادت أن تجريَ استفتاء شعبيا يُمكن على ضوء نتائجه معرفة حقيقة المشاعر الشعبية تجاه مواقف رئيس الأركان، وذلك بعد استفتاء آخر غير مباشر جاء في خطاب للفريق قايد صالح نادى فيه بجمهورية باديسية نوفمبرية، وتجاوب معه أغلبية المتظاهرين الذين رفع بعضهم لافتات تأييد رسم على بعضها صور لرائد النهضة الثقافية العربية، عبد الحميد بن باديس، بينما تصاعد تنديد الأقليات الفرانكو لائكية، وتجسد في مقال نشرته صحيفة بالفرنسية تحت عنوان «الباديسيون النوفمبريون هم زبائن النظام».
وكان الحجم الهائل للأعلام الوطنية في الجمعة الثامنة عشرة للحراك دليلا على أن الأغلبية الساحقة تؤيد المواقف الدستورية التي اتخذتها المؤسسة العسكرية، وأصبح على الأقلية اللادستورية أن تبحث عن طريق آخر، وهو ما بدأ بشكوى وجهت للأمم المتحدة تتهم النظام الجزائري بالعنصرية، تعليقا على «استفتاء» الراية الذي أثبت فيه القطاع الأعم من الجمهور تجاوبه مع ما قاله قايد صالح، بينما تشنج ضده آخرون استقطبوا نفور الكثيرين، وتزايد هذا النفور بأمر لم يكن في الحسبان، وهو استشهاد الرئيس المصري المختطف الدكتور محمد مرسي.
فقد عرف الشارع الجزائري تأثرا عميقا إثر الإعلان عن استشهاد الرئيس المصري، تجسد في صلاة الغائب التي أقيمت في المساجد وفي الميادين العامة، وفي هتافات تدين الثورة المضادة وترفع صور الرئيس الشهيد.
ولأن التوجهات اللائكية المعادية لرئيس المؤسسة العسكرية، ومن باب التناقض مع الانتماء العربي الإسلامي، أخذت موقف لا مبالاة، وصل عند بعض معلقي مواقع التواصل الاجتماعي إلى حد التشفي في  اغتيال سجين سياسي، مسؤولية حياته تقع على سجانيه، فقد أضيف سبب آخر لالتفاف الجماهير حول المؤسسة العسكرية.
وهكذا أبرزت الجمعة الثامنة عشرة عددا هائلا من الإعلام الجزائرية، مع عدد محدود من راية «جاك بينيت»، رأيت بنفسي أن الجماهير قامت بحرق إحداها في إحدى التظاهرات، وقيل لي أن رجال الشرطة لم يتدخلوا إلا عندما كان بعض الشباب يحاول استفزازهم بالتلويح بالريات في وجوههم، ومن هنا تم انتزاع وسيلة الاستفزاز، وهو خبر أورده كما سمعته ولا أقطع بصحته أو أرفض قبوله لأن أي خبر يحتمل الصدق وغير الصدق.
وكان أروع ما تابعناه تجمعا كبيرا في بجاية ردد النشيد الوطني في ظل غابة من الأعلام الوطنية، وعدد محدود جدا من العلم الضرار، وسيدة مسنة رفعت العلم الوطني رغم أن الراية الأخرى كانت ملفوفة على عنقها، وهو حقها كما رأيته.
لكن المهم أن الأمور مرّت بسلام عبر كلّ التجمعات، ولم يكن هناك استفزاز ذو أهمية من أي جانب، وهو ما لا ينفي أن أقنعة كثيرة سقطت، كان يختفي وراءها خبراء إمساك العصا من الوسط، والدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه، لأن كل ما يمكن أن يمس الوحدة الوطنية مرفوض، ولو كان مجرد وهم أو خيال.
وستصبح جزائرنا قوة عظمى تبني غدا مزدهرا لا يعرف التسلط ولا الإقصاء ولا الانتقائية الجهوية عندما يتعانق أحفاد عميروش وابن باديس، وعندما يتآخي أحفاد أحفاد يوغورطة وعقبة بن نافع، وعندما يتكامل أبناء بو مدين وآيت أحمد، وعندما ينسجم أنصار بو ضياف وعباسي مدني، ويُردّدُ الجميع بصدق وإيمان وتجرد...خاوه خاوه.
وهذا هو ثمن الاستقرار وهذا هو معنى الحرية، وهذا هو منطق الدولة.
وطوبى لكل من يقول لرفيقه:
خفف الوطأ ما أظن أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد.