نزل نبأ رحيل الأستاذ الدكتور محمد بن بريكة، أول أمس، مفاجئا وفاجعا، وتأثّر له كثيرون من محبّيه وزملائه وقرّائه من داخل الوطن وخارجه. عُرف الفقيد بسعة علمه، وحدّة ذاكرته، وملَكَته اللغوية النادرة وحجّته القوية الحاضرة. رفض التشدّد وحاربه، وخصّ التصوّف الإسلامي بالبحث والدراسة، وكتب حوله عديد المؤلفات، ووهب له حياته إلى أن وافته المنية وعمره لم يتجاوز الـ 61 عاما.
كانت أول مرة أطّلع فيها على كتاب للفقيد الدكتور محمد بن بريكة سنة 2006، حينما وُضع بين يديّ الكتاب الأول من «موسوعة الحبيب للدراسات الصوفية»، وعنوانه «التصوف الإسلامي من الرمز إلى العرفان»..بحثتُ مجدّدا عن هذا الكتاب في رفوفي، لأشاطركم بعض ما جاء فيه.
بيئة ملؤها العلم والتّقوى
ممّا قاله الفقيد بن بريكة في مقدمة الكتاب، خصوصا فيما يتعلق ببيئته وأسرته، إنّ اهتمامه بالتصوف الإسلامي يعود إلى سنين مبكرة من حياته: «فقد كان لمحيطي العائلي دور في ذلك، إذ لطالما سمعتُ والدي رحمه الله يقرأ صلاة الفاتح دُبُر كلّ صلاة مفروضة يعقبها بجملة من الأدعية والأذكار».
ويذكر بن بريكة كيف أن والده أرسله إلى الكتّاب لحفظ القرآن الكريم وسنه لا تتجاوز الرابعة، وكيف «انتقشت في ذاكرته» بردة البوصيري وهمزيته والمولد البرزنجي.
وكذلك كان دأب والدة الفقيد، وأخويها محمد وعبد الله، وقد كان جميعهم يجلسون إلى حلقة جدّه، الذي كان «طودا شامخا في العلم تخرّج من جامع الزيتونة المعمور بأعلى الشهادات وختم الله له بالشهادة في الثورة التحريرية المباركة»التي كان فيها قاضيا شرعيا. ودائما في ذات المقدمة، لم يغفل بن بريكة ذكر أساتذته ومشايخه الذين كان لهم فضل عليه.
التصوّف..مناهج دراسة ومنهج حياة
كان إنجازه بحثا بعنوان «المعرفة عند الصوفية: ابن عربي نموذجا»، بذرة أثمرت وصارت شجرة يانعة، حيث تحصّل بن بريكة على شهادة المنهجية في البحث في هذا الموضوع، ثمّ طوّره إلى مذكّرة ماجستير، ليبقى خطّه العلمي إلى غاية حصوله على دكتوراه دولة في التصوّف الإسلامي بالتقدير الأعلى مع تهاني اللجنة وتوصيتها بطبع العمل، الذي كان حول إشكالية المنهج والمصطلح في التصوّف الإسلامي.
كما راودت بن بريكة فكرة وضع موسوعة صوفية «تشمل البحث المحض وجمع النصوص ووضع قواميس المصطلحات، وكان له ذلك وأسماها «موسوعة الحبيب» نسبة إلى الحبيب المصطفى عليه أزكى الصلاة والسلام.
وهكذا كان التصوّف الشغل الشاغل للفقيد، وفي ذلك يقول: «لقد آليت على نفسي الغرف من أمهات كتب التصوف فنهلت ومازلت فما نفد الشراب ولا رويت، ولا يكاد يوجد كتاب معتمد في هذا الفن إلا واطلعت عليه ونهلت منه أو جعلت تحصيله بغيتي والعثور عليه منيتي، وإن حصل التقصير فهو من جملة العبر إذ هو دليل استيلاء النقص على جملة البشر».
يذكر أنّ الفقيد كان يجيد عدة لغات، وعمل أستاذا محاضرا في التصوف والفلسفة الإسلامية بجامعة الجزائر، وأستاذ أصول الدين في معهد الفلسفة بنفس الجامعة. وتولى مهام عديدة منها إدارة الدراسات ثم الدراسات العليا ثم رئاسة المجلس العلمي وعضوية اللجنة الوطنية لإصلاح برامج التعليم العالي ونيابة رئاسة اللجنة الوطنية للعلوم الإنسانية والاجتماعية.
كما كان عضوا في الأكاديمية العالمية للتصوف والتراث الصوفي، وعضو المركز العالمي لحوار الأديان، ولديه ما يقارب 30 إصدارا. واختارته جامعة كولومبيا الأمريكية رجل السنة في الجزائر سنة 2017. وكانت حياة الفقيد حافلة بالإنجازات والبحث والجدّ والكدّ إلى أن وافته المنية أول أمس الخميس عن عمر ناهز 61 سنة.
وطني بامتياز ورافض للتيارات المتشددة تقاطرت رسائل الترحّم على روح الفقيد، من الداخل والخارج، بما حملت من استذكار لخصاله ومن اعتراف بما قدّمه من علم وعمل.
وفي ذلك، يقول الدكتور بوزيد بومدين، الأكاديمي والأمين العام للمجلس الإسلامي الأعلى، إن وفاة محمد بن بريكة «حزن وفقدان لباحث يتقن العبارة ويعبر بلاغة عن المعنى، فقدان لباحث غاص في مواقف النفري والأمير عبد القادر، ووطني بامتياز، عرفته الزوايا ومشايخ الطرق، وارتبط بالزاوية البلقايدية مشرفا على دروسها المحمدية السنوية..رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه ونعزي أهله وأساتذة الجامعة ومشايخ التصوف والزاوية البلقادية».
ويضيف الدكتور بوزيد بومدين، في تصريح خصّ به «الشعب»، أن دار الحكمة نشرت موسوعته في التصوف، وهي أعمال صوفية أعاد طبعها ووضع لها مقدمة مطولة مأخوذة من أطروحة الدكتوراه في ذات الموضوع، ونشرها في إطار تظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية سنة 2007. ويقول د - بوزيد إن الفقيد «كان يعتد بأصوله البوزيدية الحسنية البسكرية، ويوقع تحت اسمه البوزيدي الحسني».
وعن بعض مساره الأكاديمي، يطلعنا د - بوزيد أن الراحل درس الفلسفة في بوزريعة وصار بها أستاذا للفلسفة الإسلامية، ثم درس بكلية أصول الدين «ودخل في صراع مع تيارات متشددة»، ثم عاد مجددا إلى بوزريعة.
دافع عن الأخلاق ودورها في بناء الأمّة
من جهته، قال الدكتور عبد الرحمن طيبي، أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي بجامعة الجزائر 1 بن يوسف بن خدة، في تصريحه لـ «الشعب»، قال إن الأستاذ الدكتور محمد بن بريكة، رحمة الله عليه، «يُعتبر أحد أبناء الجزائر البررةالذين قابلوا عطاءها بعطاء يروم من خلالها تأدية الواجب ورد شيء من أفضالها عليه، في زمن اختار كثير ممن هم على شاكلته غير هذا الطريق، تعلما وتعليما، وبحثا وتدريسا وتأطيرا، فيكاد يجمع من عرفه على لين جانبه، تأسر كعباراته مرحّبا ومهلّلا، محلّلا ومُفهما، مستمعا ومسمّعا، كما تشدّك عبراته وهو يحدثك عن المفقود في البنية التحتية المعرفية - إذا صح التعبير - للضمير الجمعي الثقافي والديني للمجتمع الجزائري، بغض النظر عن سبب الفقد، أهو بفعل السنين ورياح الشمال والجنوب، أم بفعل تفريط بعض أبنائها واستئسارهم تارة للهوى المشرقي وأخرى للهوى الغربي، وهذه نتيجة متوقعة من أحد أبناء الجزائر العميقة والأسر العريقة المعروفة بتاريخها وجهادها من أجل الجزائر».
وأضاف الدكتور طيبي: «الدكتور محمد بن بريكة عرفه كثير من الجزائريين عبر صفحات الإعلام وشاشات التلفزيون منافحا عن مقام من مقامات الإسلام وهو الإحسان، مركّزا على أهمية الأخلاق المتأسية بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم لاستعادة المرتبة المطلوبة من هذه الأمة أن تتبوّأها، فمن عرفه على تلك الحال لم يستغرب أحواله في غير تلك المواضع من تواضع وهمة وبحث وحرقة».
وخلص د - طيبي إلى أن المرحوم الدكتور محمد بن بريكة «من القلائل الذين تفننوا من خلال تخصصهم في الدراسات الصوفية والفلسفية، ومحاولة التنظير الأكاديمي لهذا الفن والعلم الذي عرف عند منتسبيه بأنه أحوال ذوقية، فكانت له اليد الطولى في التصوف الإسلامي على اختلاف أقسامه من حده الأدنى الذي يعتبر قاعدة مشتركة بين المتصوفة إلى التربوي إلى العرفاني بلغة أكاديمية سهلة سلسة، زادته الممارسة العملية له عبر الطرق الصوفية التي انتسب إليهافي الجزائر، أو التي تعامل معها في الجزائر وخارجها رصيدا معرفيا وخبرة علمية أبان عنها عبر أبحاثه ومؤلفاته، بالمختصر المفيد إن المرحوم ترك فراغا معرفيا وأكاديميا ومجتمعيا يصعب سده، فرحمة الله عليه وعلى علماء الجزائر ورجالها».