من المسلسلات التي لاقت مشاهدة كبيرة لدى الجمهور الجزائري لرمضان 2019، مسلسل «أولاد الحلال» إخراج نصر الدين السهيلي، المهدى لحي الدرب العتيق بمدينة وهران، والمنجز بنفس الحي. وهي من أولى الملاحظات، بالابتعاد عن المركزية والخروج من العاصمة بالذهاب للمدن الأخرى، للجزائر الأخرى بعيدا عن نموذج العاصمة، وهذه المرة كانت مع حي الدرب من مدينة وهران بالغرب الجزائري، بتقديم الوجه الآخر لوهران، ومنها تقديم قطعة من الجزائر الحقيقية غير ظاهرة الشارع الكبير بقلب أي مدينة، فخلف هذه الشوارع الكبيرة المكتظة بالواجهات التجارية، وبعيدا عن الفنادق الفخمة تكمن الحياة الواقعية غير مزيفة. ولو أن العنوان جاء بالعامية لكان أفضل «ولاد حلال» بدل «أولاد الحلال»، حتى يمتد خط الواقعية لكل عناصر العمل بدءا من العنوان.
وقبل الدخول في تفاصيل هذا العمل، لابد من الاعتراف أنّ المسلسل نجح بشكل كبير، فنيا وتقنيا، وشد انتباه الملايين من الجزائريين، وكان ينتظر بلهفة كل يوم بعد فطور رمضان. وهذا دليل على نجاح المخرج والسيناريست على خلق عنصر التوتر الدرامي المبني على التشويق والمفاجأة وعناصر أخرى تقنية وفنية كثيرة. وأغنية الجينيرك التي لعبت دور في التأثير على المشاهد، فكل من الكلمات والتلحين والأداء كان مميزا وناجحا.
من مميزات مسلسل أولاد الحلال، تقديم العديد من المواهب الشابة الصاعدة كالممثل المسرحي عبد القادر جريو والممثل يوسف السحيري وسهيلة معلم، الذين كان لهم حضور مميز، إضافة إلى الممثل محمد خساني الذي أدى دور مختلف تماما عن ما تعود على تقديمه، والتخلص من النمطية. والوجوه الجديدة التي أثبتت قدراتها، مثل هيفاء رحيم، مريم عمير.
دون نسيان أسماء قديمة أدت أدوارا جديدة وأبدعت فيها كالممثل مصطفى لعريبي، الذي أبدع وتميز من خلال أداء طبيعي دون مبالغة وبعفوية كبيرة، وكذا الممثلة مليكة بلباي التي تميزت هي الأخرى، وأثبتت أن هناك مواهب تحتاج فقط للتشجيع والإهتمام. والأداء المتميز للممثلة فضيلة هشماوي، التي أعطت للشخصية حقها، وأبدعت كثيرا.
كما تألقت الممثلة إيمان نوال والأداء العفوي والطبيعي لمريم أوكبير، موني بوعلام التي اجتهدت في أداء اللهجة الوهرانية، والممثلة فاطمة الزهراء حسناوي، وكذا الممثل عزيز بوكوروني. والحضور الفني للمخرج المسرحي والممثل محمد فريمهدي ولو أنه كان ينتظر منه أكثر، وما يؤكد العمل الجاد أن الجميع قد اجتهد في نطق اللهجة الوهرانية، مما أعطى جو موحد وحقيقي. والمؤسف حين تظهر مغنية لأداء لقطة واحدة فقط، رغم أن لها صوت جميل. كما كان يلزم المسلسل حضور ممثل قوي قوة الممثل سيد أحمد اقومي على سبيل المثال لأداء دور شخصية المرداسي التي تمثل الرجل الأقوى في البلاد، فالممثل جمال بارك لم يعطي للشخصية حقها، وكان بعيدا عن قوة هذه الشخصية.
الجانب التّقني تونسي
لكن هل المسلسل جزائري أم تونسي؟ قد يبدو للبعض أن السؤال ليس مهما، وأنّالأهم هو نجاح العمل، وأن العمل أكيد جزائري لأن أغلبية الممثلين بل جلهم جزائريين. السؤال مهم جدا، لأننا نبحث عن دراما جزائرية، لأن الوضع كارثي، لأننا غير قادرين على إنتاج مسلسل جزائري مئة بالمئة، بدون الإستعانة بطرف أجنبي. لأننا وبعد أكثر من نصف قرن بعد الإستقلال، لازلنا عاجزين عن الإنتاج، عن إدارة الممثل، اننا نعاني عجز كبير في المجال التقني..لأننا لازلنا لا نملك سيناريست واحد بالمفهوم الحقيقي للكلمة. إننا لم نكون لا الممثل، ولا المخرج، ولا التقني، ولا السيناريست، كنا وما زلنا نعتمد على العشوائيات، على التساهل، على العلاقات الخاصة، ولم نعلن بعد حالة الطوارئ.
الهروب...
إنّنا مازلنا نهرب إلى الإنتاج المشترك، إلى التقني والمخرج الأجنبي، لنغطي ضعفنا، وفي حالة مسلسل أولاد الحلال، كل ما يعتمد عليه انجاز أي مسلسل من أساس قوي ليس جزائري بل تونسي، بدءا من السيناريو، للسيناريست التونسية رفيقة بوجدي، وحتى الفكرة الأصلية للتونسي محمد أيمن الجوادي، والمخرج التونسي نصر الدين السهيلي، إلى التقنيين التونسيين.بل حتى إدارة الممثل كانت واضحة، والتي نفتقد إليها كثيرا. إذ لو تمت مقارنة بسيطة بين تمثيل الأسماء المشاركة في هذا المسلسل، وبين مشاركتها في أعمال أخرى، سيلاحظ المتفرج الفرق. لأن إدارة الممثل تلعب دور كبير، وعن إختيار الكاستينغ، وعن اختيار الشخصيات.
هي تجربة تونسية لأن أي عمل من المفروض يتبع مخرجه، لكن بروح جزائرية، هو هروب من واقع السمعي البصري بالجزائر، لكن ماذا عن العام القادم؟ أم هل يمكن اعتبار هذه التجربة الفنية تحفيز للقادم؟
بداية إحترافية ونهاية متذبذبة...
كما ذكرنا سابقا كان بطل مسلسل أولاد الحلال «حي الدرب العتيق» بوهران، كما أكد على ذلك مخرج العمل في إحدى الحصص التلفزيونية أن الشخصية الرئيسية هل «حي الدرب»، لكن لاحظنا في الحلقات الأخيرة تغير هذا المنحنى، فلم نعد نشاهد حي الدرب إلاّ قليلا، لم يعد هناك أي توازن في سرد الأحداث. إذ كانت الحلقات الأولى تمتاز بإحترافية، لكن لا حظنا في الحلقات الأخيرة تذبذبا وخلل كبير في سرد الحكاية. هل تمت اضافات في السيناريو لم تكن موجودة من قبل، هل التسارع في الإنجاز، وضيق الوقت، لأن الجميع يعلم أن هناك حلقات أنجزت برمضان موازاة مع عرض المسلسل.
من بين الملاحظات، نجد خلل كبير حين موت «رضا»، إذ لم يعطي أي أهمية لموته، رغم أن هذه الشخصية كان لها ظهور كبير، ويعد صديق كل من مرزاق وزينو، ولم يتم حتى التساؤل عن من قتله، ولم يخصص أي مشهد لأم رضا وهذا ما أعلنت عنه الممثلة كلثوم فوزية بوشارب التي أدت دور الأم وقد قامت بإعداد الدور، ويبدو أن هذا المشهد قد تم حذفه، لماذا تم الحذف؟ تبقى الإجابة من كواليس العمل. وكذا خطيبته دليلة التي لم يخصص لها أي مشهد بكائي للحادثة. فمن غير المعقول تجاوز ذلك، خصوصا أن القاتل توفيق، كان يقصد قتل مرزاق وليس رضا. ولم يتم تسليط الضوء على الحادثة إلى حين الإمساك بتوفيق، ليعلن مرزاق أن توفيق من قتله، دون أي تمهيد أو تبرير، ثم ماذا حل بتوفيق؟ هل قتل؟ ماذا جرى لفرج؟ والذي يعد من الشخصيات المهمة في الحكاية، ما مصير خالد تاجر المخدرات؟ وغيرها من الأحداث التي لم يتم تبريرها،أو لم يتم التعمق فيها.
وكيف يتم التساهل بحمل الألماس، هذا المجوهر الثمين، بين أيدي كل من مرزاق وداليا دون التفكير مسبقا في مكان لتخبئته. وكيف لداليا أن تتقبل ببساطة أن يكون والدها تاجر مخدرات. ومن بينها أيضا موت مرزاق تم بسهولة وبساطة أضعفتالتوتر الدرامي، وكسرت كل ما حمله المسلسل من بدايته من حمولة درامية قوية، فكان لابد أن تكون النهاية قوية، لتبقى في ذاكرة المشاهد، ولا تتم بتلك الطريقة. ولو أن موت مرزاق كان واقعيا لأنه دائما هناك ثمن يدفع، لكن طريقة موته كانت سطحية.
كما لم يتم حل كل الأزمات المطروحة مسبقا، فمن غير المعقول بالدراما أن تترك بعض الأزمات الثانوية التي علقت في البداية دون أي حل، فبعد الحل النهائي، لا تترك أي تساؤلات، خصوصا حين تكون جوهرية. ماذا عن الصغير ربيع؟ هل اغتصب؟ أم لا؟ خصوصا إذا اعتبرناه رمز للغد القادم.
هناك ملاحظة أجدها مهمة، هي مسألة تعاطفنا كثيرا مع شخصيتي «مرزاق» و»زينو»، رغم أنهما سارقان، حتى ولو كان تبريرهما أنهما يسرقان أموال المحتالين «حالف ما نسرق واحد دار دراهم بعرقه» على لسان مرزاق، لكنها سرقة مهما كانت المبررات، هل هذا حل؟ وهل يمكن اعتبارها معالجة لوضع الجزائر خصوصا في ظل الحراك الشعبي؟ ومن مشاهد النهاية مشهدإيجاد أختهم، كان هناك أمل لكن ظروفهم لم تكن تسمح بأن يصافحوا هذا الأمل، فكانت صورة واقعية جميلة.
لمسات فنية جمالية فكرية...
يضم العمل جانب فني جمالي كبير وواضح، كما يحمل بعد فكري أيضا، حتى ولو كان ضئيلا، إلا أنه يستحق الإشادة والتنبيه له، من بينها إظهار صورة الأمير عبد القادر بالحلقة الأولى وبإطار رسمي وكبير في مكتب المحامي، وحتى يمكن القول مكان وضع صورة رئيس الجمهورية على الحائط.
وذكر إسم الكاتب بوجدرة أثناء تقديم كتابه كهدية عيد ميلاد، وهي نقطة تحسب للعمل، وقد أثارت ضجة على الفايسبوك. وظهور كتاب «يهود الجزائر» بمكتب خالد، وهي إلتفاتة مهمة، لست أدري إن كانت صدفة أم مقصودة، ولو أن شخصية خالد كما عرفناها في المسلسل، أبعد من أن تضع مثل هكذا كتاب على رفوف مكتبته، خصوصا إذا اضفنا إليها تمثل بوذا الذي وضع على طاولة الغذاء ببيت خالد ايضا، وكذا اللوحات التشكيلية الجميلة التي زينت بيت هذا الأخير، فذوق البيت كان أرفع من مستوى شخصية خالد وزوجته.
مشاهد تحمل بعد فني جميل وتراثي، فهذا صوت الريميتي المنبعث من بيت زوليخة، والراي المنبعث من بلعباس «يا زينة ديري لاتاي»، إلى العرس التقليدي بالمداحات والقرقابو من خلال عرس رضا، بعيدا عن صالات الحفلات العصرية. وتأكيد آخر على هذا البعد نجده حين انعزل كل من مرزاق وداليا وأسمعها أغنية راي «عرس بلا راي ماشي عرس»، هي الضفة الأخرى للمجتمع. ومن النقاط التي تحسب للعمل أنه كسر بعض الحواجز لدى المجتمع الجزائري المعروف عنه أنه محافظ جدا حد النفاق، إذ يلاحظ مشاهد كثيرة للعناق بين العشاق وعفوية التعامل دون تكلف الإحراج.
فرغم أن مستوى المسلسل عرفتذبذبا خصوصا في الحلقات الأخيرة، إلا أنه يظل عمل مهم كسر قواعد عديدة ونأمل أن يكون إنطلاقة جديدة وتحفيزية للأعمال الجزائرية القادمة، حتى يكون نموذج للنجاح.