يتبين أن الخطّ والتصفيف جميلان، المقدمة الرائعة لديوان الشاعر رياض منصور : منديل و قطعة قلب «، كما أن حجم الكتاب من حيث عدد الصفحات صغير قليل، وهكذا ينبغي في الدواوين، فالشعر ضغطٌ للمعاني، يحتاج القارئ فيه مع كلّ بيتٍ مِفَكًّا للمعاني، فلا ينبغي أن يتجاوزَ الديوانُ مطبوعًا المئة (100) صفحة.
مما أعَبْتُه على الشاعر رياض منصور الإكثار من حرف الواو، بل كاد كلّ شطرٍ يبدأ بالواو، فإن كان ذلك عن قصدٍ، فهذا يدخل في أسلوبِه، وإن كان اضطرارًا، فهذا قد يُستَثقل أحيانًا.
يبدِع الشاعر حين يقول: «ومدينةٌ ثكلى تصفّف حزنَها، ساحاتُها غصَّتْ بها الأيتامُ». مع أنّه كان يجب أن تقول: غصَّ بها الأيتامُ. ممّا شانَ التّصفيف وسَاءَهُ، وضع عناوين القصائد في وسط الصّفحة، ومنهجية الدواوين أن يُوضَع العنوان برأس الصفحة، ولو أنْ كانت الصفحةُ قبله تحوي بيتا واحدا أخيرا من القصيدة السابقة.
في قول الشاعر: «هل يمسح المنديل صرخة والد، فقد الكلامَ ونجلَهُ وانهارا». جعلتَ من (هل يمسح المنديلَ) لازمةً في ما سبق هذا البيت، ولحِقَهُ من أبيات، فالتزامُه هذا فوّتَ عليه التركيز مع الفاعل المؤنّث، فيقول على الفصيح من الكلام: (هل تمسح المنديلَ صرخَةُ والدٍ). وكذلك الأمر نفسه مع الأبيات بعده. ولو يجيبني فيقول: المؤنث في الفاعل بعده مؤنّثٌ مجازيّ غير حقيقي، وأجاز بعض النحاة مخالفة الجنس معه في الفعل تذكيرًا، قلنا له: نعم.
وفي القول : «وعلى ضفاف جرحنا مرّ الأسى، العمر نهرٌ والجِراحُ ضِفاف». أقترح في بداية العَجُز فاء الاستئناف، حتى لا تقع في كسرٍ عروضيّ. فإن العَجُز موصولٌ بالصَّدر، ولا ينفصل عنه. وكذلك في أبيات أخرى، تبدأُ العجُزَ فبها بأل.
يحسن الشاعر كثيرا اختيار العناوين، عناوينُه موحية مشوّقة، بل جميلة، و شعره في أغلبه شعرُ تفكير، فلو قسّمنا الشعر إلى قسمين: نزارٌ ودرويشٌ، فهو إلى درويش أقرب منه إلى نزار، تصلُ اللفظة، وتتدلّل المعاني، إلا بإرضائها بشيءٍ من التفكير العميق.
كان حكيما في قوله: «تُرى، هل يُنصف التاريخ يوما، قلوب الهاربين إلى الحياة؟». وأقول له: الزمن، الوقت، التاريخ كفيلٌ بإنصاف الحق، الجمال.
يرتفع رياض منصور في بعض الأبيات إلى قمة الإبداع والتصوير، فلو نظرنا مثلا إلى البيتين الأولين من قصيدة: «الضوء الخجول»، الأشطر الثلاثة من بيتين قمة في التصوير الرائع، لكن في عَجُز البيت الثاني، تنزل، فيجيء الشطر نثريا سطحيا، تمنيت أن يقابل الشطر الثاني من البيت الأول. يبتعد عن الترميز والتلغيز والدروشة (درويش) ليتنزّر (نزار)، فيجيء بالبيت واضحا، لكن آسِرًا وجميلا. انظر إلى قوله: «عالجتُ بالأشعار شِعرَ حبيبتي، فجرحتُ قلبي، يا لَني من جان»، «هل طلقة الأشعار غير رصاصة، صوبتُها نحوي فما أشقاني». هذا هو الشّعرُ وربّ الشعر، أعذَبْتَ وعذَّبْتَ، فسَلِمتَ.
وقوله في أوّل قصيدة «شفة للإيجار»: «سِرّ الأنوثة برقع ونقاب، سحرُ الحياةِ صوامع وقِبابُ». ستكون أجمل لو جعلتَ الصدر عجُزًا، والعجُز صدرا، تناسبا مع تركيبة الصورة.
كان حكيمًا في قوله: «ودم الفتوّة لا يكون مخلّدًا، فإلى متى يبقى الفتى يرتابُ»،
ورائعا في قوله -والروعة في البساطة ووضوح التصوير، كما قال آنفا: «متأخّرا وصل البريد لحيّنا، الحي نام ونامت الأبوابُ. متأخّرا وصل السلام لأرضنا، الحب مات وماتت الأسباب». وروعتُها في نزاريتها، وتلك الرائحة النزارية في ما بعدها من أبيات.
يمتاز الأسلوب بتكرار بعض العبارات بأنواع مختلفة، فتكون مجموعةٌ من الأبيات على نمطٍ واحدٍ من التكرار، فتغيّر الألفاظ وتترك الأسلوب، مثل: «من للبراءة، من للدفاتر، من للعروس...» وغيرها كثير جدا، هذا إذا كثُرَ يُضعِفُ الأسلوب. قصيدة «فن الغياب» رائعة بيتا بيتا، ولا أستثني منها إلا قافية واحدة، قافية البيت السادس «الأتراح»، كان الأولى لو كانت (الأفراح)، حتى تستقيم الصورة الشعرية.
في قصيدة: «زنزانتان» بعض الصور الجميلة: «سيان من دخل المجازر فاجرا، أو من أتى في جبّة النسّاك»، «دبّابتان تمشّطان حقولنا...».
قد يكون أجمل ما كتب في «الوردة الثائرة»، هي رائعةٌ، دون نقدٍ، تستحقُّ هذه القصيدة أن تُكتَب على أبواب البليدة وأسوارِها، ليراها كلّ داخل وزائر. كيف لا وهو يقول فيها: «شهرٌ به ألقى الرصاص خِطابَهُ»، «شهرٌ به نزل البيانَ على القُرى». ما أروعَ ما قلتَ.
قوله: «من أنتَ حين يقولُنا المنفى». عبارة غامضة غير واضحة. حزينةٌ ومحزنة ومبكية وموجعةٌ قصيدته: «الأرجوحة المشنقة». أحسن الوصف والتصوير. و «الغيمة العطشى» جميلة، لم أجد ما أختاره منها، كما قد قيل: جميلةٌ كلّها على بعضها، حاولتَ المزج بين العمودي بالحر، هذا فن تشكيلي شَكلي جميل.