الأمة العربية أمة شعر، وهذا ما عرفت به منذ غابر أزمانها، حتى أنهم قدّسوه وربطوه بما يقدسونه من الآلهة، فبرزوا فيه وفاقوا كل الأمم فكان هو المقوم الحقيقي لحضارتها، ولم تتقن فنا آخر سواه من الفنون التي تتطلّب الاستقرار، وفي الجهة المقابلة وفي الفترة الزمانية نفسها نجد أمة الرومان والإغريق التي استقرت في الأرض وبنت حضارة وعمرانا ما يزال شاهدا رغم كرّ الليالي والأيام. هذا ما جعل هذه الأمم تعرف فنونا هي وليدة الاستقرار وعدم الترحل لم تعرفها الأمة العربية، وعلى رأس ذلك فن المسرح، الذي لم يعرفه العرب إلا في فترة
ركزت الحضارتان الإغريقية والرومانية على المسرح لعلمهما أنه من أهم الفنون في تسيير الشعوب والتأثير فيها، وفوق ذلك تربيتها، وهذا ما غاب عن أمة العرب، ولم يعرفوه أيضا في أوج تطور حضارتهم في العصر العباسي وقد ترجموا الكثير من فنونهم وآدابهم وفلسفتهم، غير أنهم لم يهتموا بالمسرح؛ لأنه مرتبط بالوثنية وتعدّد الآلهة، وهي أمة حديثة عهد بالدين، فالخوف العقدي جعل المسرح يتأخّر إلى مشارف العصر الحديث.
لما عرفت الأمة العربية المسرح برزت فيه وراحت تبدع بكل جمال، ونشأت مسارح وبرز رواد قفزوا بهذا الفن بعيدا، وكان لهم تأثير وإشعاع على الربوع العربية كلها، نذكر (أبا خليل القباني، يعقوب صنوع، مارون النقاش ...). آمن الفنانون في الجزائر أيام احتلالها أن المسرح لا يقل أهمية عن المقالة والخطبة في بثّ الوعي وتربية الأمة الجزائرية، وإعداد جيل جديد قد يكون معه الإعداد للانعتاق من نير الاستدمار الفرنسي، لذا وجدنا فرقا كثيرة تنشط في هذا المجال تعالج قضايا كثيرة يعاني منها المجتمع ـ إذاك ـ (شرب الخمر / الكذب / الطلاق / الخيانة / المرأة ...) وكثيرا ما كانت المشكلات تعالج بمسحة فكاهية، ليخرج الجمهور بعبرة من المتفكه عليه، إذ يجتهد أن لا يكون في مكانه أو في مثل حالته، برز (محي الدين بشطارزي ومحمد توري ورشيد قسنطيني...)، يقول بشطارزي: «بدافع إحساس حميد، استقر رأينا على أن تقدم مسرحية عربية، ولم يفكر أبدا في ترجمة إحدى المسرحيات الفرنسية، غير أننا لم نكن نعرف المسرح العربي فجاءنا شعاع الأمل الوحيد في تلك السنة نفسها؛ أي 1921 م مع جولة الممثل المصري الكبير جورج أبيض».
فترة الثمانينات العصر الذهبي للركح الجزائري
عرف المسرح الجزائري بعد الاستقلال ثلاث مراحل مهمة آخرها من (1981 إلى 1990)، مرحلة بلغ فيها المسرح نضجا كبيرا، قدمت فيه أعمال مهمة جدا وذات جودة عالية، منها (الأجواد 1985) لعبد القادر علولة و(قالوا لعرب قالوا 1983) وأخرجها زياني شريف عياد و(الشهداء يعودون هذا الأسبوع) للطاهر وطار، وراحت المسارح الجهوية تتنافس الإبداع والإنتاج والمشاركة في المسابقات الجهوية والوطنية والعربية والدولية وحقق بعضها نجاحا، كما حققت مسرحية (عالم البعوش) لعز الدين مجوبي في المسرح الجهوي لباتنة نجاحا كبيرا، ونالت بذلك جائزة عربية، لكن بكل أسف عرفت الفنون كلها تراجعا في فترة العشرية الحمراء، فانكمشت بفعل الإرهاب الفكري وقد كان من ضحاياها الفنانان المسرحيان مجوبي وعلولة، شكل غيابهما خسارة كبيرة لهذا الفن، بعدهما - والحق يقال ـ انتكس المسرح انتكاسة كبيرة، ولم يعرف له نشاط كبير حتى في عز البحبوحة المالية. بعد العام 2001 م على وجه التقريب بدأ يظهر في الأفق نشاط مسرحي يراد من خلاله بعث روح جديدة في جسم ابترد وكاد يموت، وتوسعت دائرة المسارح الجهوية وراحت تتنافس الإبداع بينها، فأنجبت على الأقل مسرحية واحدة في كل سنة، غير أنه إبداع قليل لا يعكس قيمة الغلاف المالي الذي يرصد من أجله، في حين رصدت أغلفة مالية هائلة من أجل المسرح المفتوح (الأوبيرات)، وقد اتخذت صورة الموضة في بداية العشرية الأولى من القرن الواحد العشرين، وتستدعي ديكورا كبيرا وجمهورا واسعا وعددا هائلا من الممثلين.
تسيير المسارح من قبل الإداريين غلطة من الضروري تداركها
يكاد يكون الأمر شبه مستحيل أن يسكن الإداريون المسارح الجهوية ثم تنتظر الفعل المسرحي أن يتطور ويثمر، لا يخرج الإبداع من الجدران والركح والخشبة على جمالها إن كان الفعل الثقافي ميتا في نفوس من يسير هذه البناءات، أو تتحرّك فقط إذا كانت الأغلفة المالية كبيرة، أو تبدع انطلاقا من أوامر تتلقاها، وإذا خلت هذه الأوامر خلا معها الإبداع، فنقطة التحوّل تكمن في روح الفنان والمسير يجب أن تسكنها الغيرة والتحرق على الفن أولا وعلى الإنتاج ثانيا، فإذا عدنا للبدايات الحقيقية للمسرح الجزائري نجده نشأ عند الهواة الذين لا يمتلكون أدنى إمكانيات العمل سوى إيمانهم بقدسية فنهم، ناهيك عن التضييق من السلطات الفرنسية غير أنهم صنعوا التميز والتفرّد.
يجب أن ينزل المسرح للشارع، أن يكثف العمل والإنتاج فالموضوعات كثيرة لا تحصى في مجتمع يبحث عن بناء وطن جميل، يجب أن يحدث ذلك التواؤم الفني بينه وبين الهواة وما أكثر هؤلاء. أن ينشط الحراك المسرحي الجامعي والمدرسي، فالنخبة تصنع من هؤلاء ومع هؤلاء، فتح فروع مسرحية في كل حي لتمتّص الشباب؛ لأن المسرح والتمثيل حبيبان لقلوب المراهقين، فالدول المتحضرة والتي تحترم نفسها تجعل مسرحا ولو بسيطا في كل حي، ولا يقف النشاط المسرحي فيها على مدار الأسبوع، ومهما كانت ظروف الحياة وتقلبات الواقع، على الموظفين والمسرحيين العاملين في المسارح إن كانوا فعلا يمارسون المسرح كفعل يعشقونه أن يخرجوا من الدائرة الضيقة والزجاجة المغلقة القاتلة لكل فن؛ دائرة البحث عن العلاوات والمناصب وتتبع الرواتب والمنح، فهي الروح الشريرة التي تسكن كل عمل فني جاد ينتظر منه التواصل والسيرورة الجادة وعلى الإعلام أن يواكب هذا الحراك المسرحي وإشهاره، فللإعلام أيضا سطوته وقوة إقناعه، وتأثيره في المتلقي، وبهذا وغيره سيكون المسرح نبضا للواقع.