لكل شيء زينة وزينة الكلام الشعر، الشعر هو وحي الروح، هو المارد الذي يسكن المهج، واللغة الجميلة والصورة المبدعة والإيقاع الأخاذ، والفكرة الهادفة كل هذه؛ هي وسائل التمكن لهذا المارد الجميل، قدر الأمة العربية أن تكون أمة شعر منذ غابر أزمانها، وكان ولا يزال وهذا قدرها أن يكون الشعر ديوانها، ديوان العرب، وقد قال أحد نقادهم: «لن تترك العرب الشعر حتى تترك العرب حنينها»، ويكفي أن الشعر الجاهلي هو النطفة الجميلة الأولى في رحم اللغة العربية.
يشترك الناس جميعهم في الروح التي خلقوا بها ويعيشون بها ما قدر لهم من حياة على ظهر البسيطة، لكن الشاعر تولد معه روح أخرى تجعله متفردا في حياته عن العامة، روحان يحلان في جسد واحد؛ إنه الروح الشعرية التي تولد معه ولن تفارقة إلا بعد أن يوسد في التراب، تماما مثل الروح العلمية التي سكنت واحدا من علماء الأندلس «عباس ابن فرناس» الذي يرمي بنفسه طائرا من أعلى بناء أمام خلق كثير في تجربة تاريخية ليجرب كيف يطير الإنسان، فاستوى له الأمر بدءا لبضعة أمتار طيرانا ثم أنهكت قواه وهوى على الأرض وكاد أن يموت لولا لطف الله به، فهرع الناس نحوه ليروا عن كثب ما حل به، ويحمدون الله له على السلامة والنجاة من موت محقق، غير أنه لم يأبه لحديثهم ولا لآلامه ولا لتهشم عظامه وراح يقول متأسفا: الذيل..الذيل..إنه الذيل! مشيرا إلى أنه لم يتفطن إلى اتخاذ ذيل مع الجناحين ليتم الطيران بشكل سليم، هي الروح العلمية إذن التي تحيا مع الروح الفطرية، كذلك الحال مع الشاعر، إذ لا يكون الشاعر كذلك إلا إذا كان مسكونا بهذه الروح، الروح الشعرية التي تجعله على التزام دائم مع روحة أولا، ومع محيطة الضيق والواسع ثانيا. والشاعر الفاشل هو الذي يريد أن يعيش لحظات من التهريج والتصفيق والتهليل، ثم يموت نصه، ويموت ذكره.
على الرغم من أن هذا الزمن زمن الرواية لأسباب فرضها الواقع الحضاري الجديد، غير أن الشعر لم يفقد ذلك البريق الجميل الذي يهز هزا، هز العصفور بلله القطر، ويرسل رسائل مكثفة في لحظات.
نلاحظ كثافة الأقلام والقرائح التي تسير سيرا حثيثا نحو الإبداع في مجال الشعر، فريق له موهبة حقيقية فطر عليها فيكتب بروح الشاعر، فهو شاعر بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وآخرون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فمنهم موهوب لكن يعتوره نقص اللغة والفقر من الجمال الذي ينبغي أن يكون في الشعر من مثل: الإيحائية: وهي السمة الفارقة بين اللغة العادية واللغة الأدبية، والغموض: وهو الغموض الفني الذي لا يصل إلى درجة الغموض واللبس، والمفارقة: وتنبع من مجاوزة الواقع والابتعاد عن معجمية اللغة، والانفعالية، والموسيقية والفردية: التي تجعل الشاعر يتميز في لغته وأسلوبه عن أي شاعر آخر، والانحراف: والذي يعني كسر الدلالة الأولية للألفاظ والابتعاد بها عن دلالتها المعجمية بإنشاء علاقات جديدة؛ لأن «الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنى شاءوا» كما يقول أحد نقادنا القدامى، على الشاعر الذي يريد أن يتفيأ ظلال الشعر أن يتمثل الكثير من هذه المبادئ، وأن يجعل من شعره يحمل روحا إنسانية.
تلعب المسابقات الشعرية والجمعيات الثقافية مثل: (شاعر الجزائر، شاعر المليون، شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، شاعر العرب، مهرجان الشعر الطلابي بجامعة ورقلة)، والجمعيات الوطنية: (اتحاد الكتاب الجزائريين، بيت الشعر الجزائري، الجاحظية، رابطة الفنانين الجزائريين) وغيرها من المسابقات والجمعيات تجعل المبدع على قرب من معرفة ما له وما عليه ويدرك بيقين مستواه الإبداعي الحقيقي، هي محطات حقيقية لتجعل المبدعين في الميزان وخاصة في غياب النقاد الملازمين للمبدعين؛ لأن النقد والإبداع صنوان متلازمان ما يفتأ أحدهما يطلب الآخر، فكم من شاعر كتب له الشيوع والذيوع بعد أن توّج بمراتب متقدمة في مثل هكذا تجمعات، ولسان حاله يقول: «الجمال موجود لكن من يحس به، ومتى نحس به...؟».