يعتبر الأستاذ عربي بومدين أستاذ العلوم السياسية بكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة حسيبة بن بوعلي بولاية الشلف، أن التدخل الخارجي في الأزمة الليبية التي أكملت عامها الثامن دون إحراز أي تقدم إيجابي، أدّى إلى مزيد من التأزم، حيث ارتبطت الأطراف الداخلية بأجندات القوى الدولية والإقليمية دون أن تبحث عن أرضية سياسية تجمعها، وهو الأمر الذي عقّد من الوضع كثيرا، وجعل الملف الليبي يدار خارجيا.
«الشعب»: أكملت ليبيا عامها الثامن غارقة في أزمة سياسية وأمنية تزداد استفحالا يوما بعد يوم، لماذا فشلت كل المبادرات والجهود في حلحلة هذه المعضلة التي تقذف بشظاياها إلى الجوار والإقليم؟
الأستاذ عربي بومدين: لا شكّ أن تزايد تأزم الأوضاع في ليبيا بعد مرور ثمانية سنوات من سقوط النظام السابق مردّه إلى غياب تام للمؤسسات، فقد ورثت ليبيا دولة فارغة من محتواها المؤسساتي، وبالتالي غابت الدولة، وحضرت الطبيعة القبلية التي لم تجد جامعا يوحّد قواها لبناء الدولة والمؤسسات، فكان من الطبيعي أن تتعمّق الأزمة في ظلّ عدم الوصول إلى توافق سياسي يفضي إلى إعادة البناء المؤسساتي، فضلا عن البيئة الحاضنة، والتي تجلّت في الخلافات والانقسامات السياسية التي طبعت المشهد السياسي الليبي، وكذلك ما تعلّق بالتدخل الإقليمي والدولي في الأزمة الليبية، إذ مثلت ليبيا بما تحوز عليه من مقدرات نفطية كبيرة في القارة الإفريقية ساحة للتنافس بين القوى الكبرى في سياق إعادة التموقع الاستراتيجي لهذه القوى.
ولعلّ فشل كل المبادرات والجهود في حلحلة هذه المعضلة يعود إلى انهيار الدولة والمؤسسات كما أشرنا آنفا، وإلى غياب مفاوض أساسي، وحكومة مركزية واحدة يمكن لها التجاوب مع هذه المبادرات، فضلا على أن الأطراف الخارجية المؤثرة في الملف الليبي هدفها إدارة الأزمة وليس تسويتها تماشيا مع ما يخدم مصالحها، وبالتالي فإنّ نجاح هذه المبادرات والجهود كما هي مرهونة بالتوافق الداخلي مرهونة إلى حدّ كبير بالتوافقات الخارجية.
المقدّرات النفطية أصبحت مصدر نقمة
من بين الجهات الخارجية الكثيرة التي تقود إلى تشابك خيوط الأزمة الليبية تظهر بشكل واضح فرنسا وإيطاليا، حتى أنهما لم تخفيا تنافسهما على الكعكة الليبية من خلال حربهما الكلامية مؤخرا، فما هي تحديدا أهداف ومطامع كل من باريس وروما؟
مصالح الغرب في ليبيا تبدو واضحة من خلال الخلاف بين إيطاليا وفرنسا مؤخرا، حيث اتهمت روما باريس بإفقار إفريقيا، إذ صدرت تصريحات نائب رئيس وزراء إيطاليا دي مايو التي انتقد فيها فرنسا محملا إياها مسؤولية هجرة الشباب الأفريقي إلى أوروبا، وفي الحقيقة هذا الأمر يدخل في سياق امتعاض إيطاليا من التدخل الفرنسي في ليبيا والاستئثار بالمقدرات الطاقوية في الجنوب، حيث سعت إيطاليا إلى عقد مؤتمر دولي (مؤتمر باليرمو) بشأن ليبيا في شهر نوفمبر الفارط، ويبدو أن هذا المؤتمر هو رد على لقاء باريس الذي حاولت من خلاله فرنسا جمع الأطراف الليبية والإشراف على حل سياسي.
وفي هذا السياق، فإن كثيرا من المحللين والخبراء يجمعون على أنه لا حل سياسي يجمع الليبيين في إطار التوافق ما لم يحصل توافق إيطالي فرنسي، والدليل على ذلك فشل اتفاق السلام الذي وقّعه برلمانيون ليبيون في 17 ديسمبر 2015، برعاية الأمم المتحدة، ونفس الشيء في فرنسا مع ما سمي باتفاق المباديء. ولعلّ المصالح الغربية تتقاطع فيما يلي:
- المقدرات الطاقوية الليبية الكبيرة باعتبار ليبيا تستحوذ على 40 في المائة من الاحتياط الإفريقي النفطي محتلة المرتبة الأولى إفريقيا، و3.3 في المائة من الاحتياط العالمي محتلة بذلك المرتبة الثامنة عالميا.
- الموارد الطبيعية الهائلة والثروة المائية في ليبيا.
- التنافس الدولي على مشاريع إعادة الإعمار في ليبيا.
مهما كان حجم التأثير الخارجي على إطالة أمد الأزمة، تقع المسؤولية الكبرى على الليبيين الذين عليهم أن يقدّموا مصلحة الوطن على مصالحهم ومصالح من يحركونهم من وراء الستار، فهل يمكننا أن نلمس في قادم الأيام تقاربا بين الأخوة الليبيين واتفاقا ينهي المأساة؟
إنهاء الانقسام السياسي والوصول إلى تسوية سياسية يكمن في حال دعم مشروع المصالحة الوطنية تحت إطار يجمع الليبيين وحدهم، مع التوافق السياسي لإعادة بناء المؤسسات السياسية، وتحقيق العدالة الانتقالية، والتأسيس لدستور جامع يحدّد تفاصيل العملية السياسية في ليبيا ويُنظمها، بالإضافة إلى دعم الشباب الليبي في أن يكون داعما لحلحلة الأزمة الليبية.
إنّ التفاهم بين الليبيين عليه أن ينطلق من مرجعيات وطنية توحّد أكثر مما تُفرق، وعلى النخبة السياسية في ليبيا إدراك حقيقة أنّ لا وطن للشعب الليبي إلا ليبيا، والعمل على تقديم تنازلات للترتيب لمرحلة قادمة يحتكم فيها الجميع إلى شرعية الصندوق وتُحترم فيها إرادة الشعب الليبي.
المصالحة الوطنية.. طوق النجاة
في نهاية السنة الماضية، برزت بعض مؤشرات الانفراج إثر إعلان المبعوث الأممي غسان سلامة عن عقد مؤتمر وطني جامع بداية 2019، لتليه الانتخابات الرئاسية في الربيع المقبل، لكن كل شيء تبخّر في الهواء ولا أثر لا للمؤتمر ولا للانتخابات، فإلى أين وصلت الجهود الأممية وهل من أمل في نجاح العملية السلمية؟
في رأيي الجهود الأممية تبقى مُتغيرا تابعا لإرادة الدول الخمس الكبرى داخل مجلس الأمن، وفي الملف الليبي والتسوية مرهونة إلى حدّ كبير بالتوافق الأمريكي - الفرنسي، وعن عقد مؤتمر وطني جامع، فإنّ ذلك لن يتمّ إلا إذا امتلكت أطراف الأزمة الليبية الداخلية الشجاعة وزمام المبادرة في إصلاح البيت الدّاخلي والانطلاق في حوار ليبي - ليبي شامل يجمع كل الأطياف السياسة داخل ليبيا وتشرك فيه جميع القوى الاجتماعية دون استثناء.
وعن الانتخابات في ليبيا، أعتقد أن الحديث في الأمر سابق لأوانه، وذلك راجع لضبابية المشهد وعدم اتضاح الرؤية بعد، ولعلّ كثيرا من الصعوبات تقف أمام تنظيم هذه الانتخابات، أبرزها تعنت الأطراف الداخلية بسبب التضارب الإيديولوجي والارتباط بالأجندات الخارجية، والعامل الخارجي الذي يعد ضربة قاصمة لفلسفة الأمن الوطني في ليبيا.
حشد التأييد الدبلوماسي الإفريقي لتسوية الأزمة
منذ مدة لم نعد نسجّل مبادرات وجهود من دول الجوار في اتجاه تسوية الأزمة الليبية، رغم أن هذه الأخيرة تؤثر على أمن واستقرار كل المنطقة، فما تعليقكم؟
الأدوار المحورية في الملف الليبي على عاتق دول الجوار، الجزائر ومصر نظرا لثقل تأثيرهما على المستوى الإقليمي، لكن تراجع هذه الأدوار يُفسر إلى حدّ كبير بأسباب متعدّدة، فضلا على ارتباط القوى السياسية الدّاخلية بالقوى الدولية أكثر من ارتباطها بدول الجوار الليبي، وهذا الأمر يجب إعادة النظر فيه بالنسبة لهذه الأخيرة ومحاولة قيادة زمام المبادرة لأن استقرار ليبيا يعني بالضرورة استقرار جوارها الإقليمي، حيث على الجزائر استغلال فاعلية دبلوماسيتها ووساطتها في عديد النزاعات الإفريقية، ومن جهة أخرى على مصر وهي ترأس الإتحاد الإفريقي هذه السنة مناقشة الملف الليبي داخل الاتحاد وحشد التأييد الدبلوماسي الإفريقي لتسوية الأزمة وإعادة الاستقرار والأمن إلى ليبيا.
بالتأكيد ضلال الأزمة الليبية الداكنة نراها منعكسة على الأمن في منطقة الساحل، خاصة ما تعلّق باستغلال التنظيمات الإرهابية لهشاشة الوضع الليبي للانتشار والتجنيد والتنقّل والتسليح؟
أعتقد أن التواجد الإرهابي في الجنوب الليبي مردّه إلى العمل الاستخباراتي الأجنبي فيما نطلق عليه بخلق التهديد الوجودي لتبرير البقاء ونشر القوات العسكرية، والهدف في حقيقة الأمر هو التواجد بقرب الثروات الطاقوية الكبيرة، بحيث يحوز الجنوب الليبي على ما يقدّر بنصف الثروة النفطية والمائية في ليبيا.
أما عن انعكاسات الأزمة الليبية على الأمن في منطقة الساحل الإفريقي، فهذا أمر طبيعي بحكم أن أيّ تدخل خارجي في أي دولة يعد ضربة قاسية للأمن الوطني والإقليمي على حدّ السواء، نظرا لشساعة الحدود، بالإضافة إلى انتشار الأسلحة نتيجة لمخلفات فترة النظام السابق، أين تمّ فتح مخازن الأسلحة وسقوط هذه الأخيرة في أيدي الجماعات الإرهابية المسلحة، مع التأكيد على التلازم الواضح والترابط العضوي بين الإرهاب الناشط في هذه المنطقة وعصابات الإجرام المنظم.
في الأخير بعد ثمانية أعوام، هل ستخرج ليبيا من النفق المظلم قريبا؟
في رأيي أنّ الحل سيبقى مؤجلا نظرا لعديد من المؤشرات أهمها على الإطلاق تعميق الانقسامات الدّاخلية وتزايد حجم التجاذبات الخارجية، وعليه، لا بد على كل الأطراف في ليبيا السعي إلى بناء دولة القانون والمؤسسات، على الرغم من التحديات والصعاب، والعمل على الاستثمار في التوافق القبلي الحاصل في ليبيا، وإبرازه كعامل قوة يعيد ليبيا سياسيا واقتصاديا، ويخلصها من ويلات المستنقع الذي انجرت إليه.
وعلى دول الجوار بالنسبة لمصر والجزائر أن تلعب أدوارا متقدمة وفاعلة ومساعدة ليبيا على تجاوز محنتها، ذلك أن الاستقرار الإقليمي أصبح مطلبا مُلحا في ظل عالم يسوده منطق الفوضى، وتجنّب نظرية كرة الثلج ومنع انتقال عدم الاستقرار في ليبيا إلى دول الجوار.