الجزائر مطالبــة قانونيــا بالضّغــط علــى باريــس للاعـــتراف والتّعـــــويض
ردّة نعيشها في التّاريخ الوطني ونخشى عدم توصيل الرّسالة للأجيال
صيانة الذّاكرة الوطنية مسؤولية المؤرّخ والباحث
صنّفت ضمن الجرائم ضد الإنسانية، آثارها على الإنسان والبيئة ما تزال قائمة إلى الآن..إنّها التفجيرات النووية بالصحراء الجزائرية. وبحلول ذكراها الأليمة تعود الأسئلة المحيرة لماذا لم ننجح في كسب معركة الاعتذار والتعويضات؟ وما هي مسؤولية الدولة الجزائرية في الضغط على فرنسا للإعتراف بجريمتها التي يندى لها جبين الإنسانية؟ يجيب عنها المؤرخ والجامعي بجامعة الجزائر 02 قسم التاريخ مصطفى لحسن زغيدي في حوار مع «الشعب».
- الشعب: كثر الحديث أنّ التّفجيرات النووية الفرنسية بصحراء الجزائر صيغت على أنّها تجارب علمية كانت مدرجة في اتفاقيات إيفيان، ما مدى صحة ذلك؟
المؤرخ لحسن زغيدي: فرنسا ادّعت في البداية أنها تقيم تجارب لكن في الحقيقة هي تفجيرات بلغت 17 تفجيرا. حينما نعود إلى مسار القنبلة الذرية الفرنسية والتي بدأت بعد تفجيرات هيروشيما وناكازاكي في أوت 1945، وفي أكتوبر 1945 شرع ديغول في العمل على بداية إنشاء المفاعلات النووية.
هذا المسار النووي الذي استكملته فرنسا سنة 1954 بإنشاء 12 مفاعل نووي استمر إلى غاية 1958، بمجيء ديغول الذي كانت أولى إنشغالاته. فرنسا بدأت في تجسيد المشروع بالحمودية في رقان، لأن التفجيرات البريطانية وقعت سنة 1959، فديغول نهاية هذه السنة قرّر أن تكون سنة 1960 سنة القنبلة النووية، ولذلك التفجيرات كانت سطحية.
لهذا لم تكن قضية تجارب لأنّ تفجير رقان كان أقوى من قنبلة هيروشيما وناكازاكي، والإشعاع النووي غطى مساحة تعد بآلاف الكيلومترات المربعة بل بالملايين كونها وصلت إلى جنوب دول إفريقية ودول الجوار، بما في ذلك بعض الدول الأوروبية مثلما وضحته الخريطة التي نشرتها وزارة الدفاع الفرنسية سنة 2014، وهي أول خريطة توضّح الإشعاع النووي الحقيقي لتفجيرات اليربوع الأزرق وتبعتها تفجيرات اليربوع الأحمر والأبيض.
واليربوع الأزرق يرمز للتعاون الإسرائيلي الفرنسي لأننا نعلم أن المفاعل النووي الإسرائيلي أول من ساهم فيه، هو الحكومة الفرنسية بزعامة منديس فرانس والإسرائيلي شيمون بيريز أب هذا المفاعل، لذلك التفجيرات النووية الأربعة التي دامت من 1960 و1961 معروف الإشعاع النووي فعاليته تبقى بين 10 ثواني إلى 10 مليون سنة، وهو إشعاع خلف أنواعا من السرطانات، والتي تفوق 14 نوعا.
أضرار تلاحق الجزائريّين والفرنسيّين
- الاجرام بهذا الحجم مسّ جزائريين وفرنسيّين بهذه الحقول بات مطلبا جزائريا وفرنسيا على حد السواء؟
نعم هذا الإجرام الذي بقي يتابع فرنسا مس حتى الفرنسيين أنفسهم، الذين اشتغلوا في هذه الحقول، لذلك المطالبة الآن أصبحت مطالبة جزائرية فرنسية لأنها مطالبة إنسانية، كذلك هي جريمة ضد الإنسانية ارتكبت على دولة وعلى أرض غير أرض فرنسية، وفي دولة في طريق التحرير ثم استمرت الجريمة.
- ماذا عن التّفجيرات واتفاقيات إيفيان؟
إتفاقيات إيفيان لم تتعرض بالتفصيل لمسألة التفجيرات النووية، لأنه ما بعد 1961 أي في 1962 دخلت التفجيرات الباطنية لمنطقة الأهقار بإين يكر، والتي بلغت 13 تفجيرا وأربعة تفجيرات سطحية برقان. إتفاقيات إيفيان لم تطرح بهذه التفاصيل الدقيقة لأن الوفد المفاوض ليست له الدراية بكل الأبعاد النووية، كما أن الوفد الجزائري المفاوض لم يوجد بينه خبير عسكري في هذه المجالات ومخاطرها، فقد كانت له ثقافة عامة شمولية عن التفجيرات النووية وخطورتها.
لذلك فرنسا في هذه الأثناء زرعت عددا كبيرا من القنابل، هل تغادر وتبقى هذه المنطقة تحمل تفجيرات قاتلة مدمرة عن آخرها أو وطن عن آخر، وتكون المسؤولية على الدولة الوطنية، أو أن هذه الأخيرة تنتظر عشرات السنين لتكوين أخصائيين في التفجيرات وهي لا تدري أسرار تلك التفجيرات؟ لذلك مجموعة إيفيان حمّلت فرنسا المسؤولية على تفجير وتطهير المنطقة من هذه القنابل، علما أن هذه التفجيرات استمرت إلى غاية عام 1966.
- لماذا عجزنا عن كسب معركة تجريم فرنسا ومطالبتها بالاعتراف، الاعتذار وتعويض الضحايا؟
هذه المعركة ترتب عنها أمران أساسيان: الأول هو أن الجريمة لا تتجزأ وجريمة فرنسا في الجزائر هي جريمة 132 سنة بدون انقطاع، لأنه تندرج فيها المحارق، الإبادة الجماعية، التهجير، التفقير، التعذيب ونهب الثروات وكل ما يتعلق بالإبادة البشرية المتواصلة، فعدد سكان الجزائر آنذاك كان يقارب 8 ملايين نسمة سنة 1830 وفي 1962 أصبح 10 ملايين السؤال هنا، أين ذهبت هذه الملايين من الجزائريين طيلة 132 سنة؟ أعقرت المرأة الجزائرية لمدة قرن وهي الولود المعروفة عبر التاريخ.
لذلك الإبادة البشرية التي تعرضت إليها الجزائر، الاعتراف يشملها وثانيا يشمل الإدانة العالمية والإنسانية لهذه الجرائم، وبالتالي ستعاد صياغة التاريخ الفرنسي من جديد، فكل ما كتب عن الثورة الفرنسية سنة 1789 وما نجم عنها من شعار «الإخاء، المساواة والعدالة»، سيذهب هباءً وسيطالبها هؤلاء الأجيال عن الحقيقة التي لم تقلها في أن فرنسا مدمرة الشعوب ومبيدة الإنسانية.
الإعتراف ستترتّب عنه تعويضات مادية وهذه الأخيرة تبدأ بالديون الجزائرية على فرنسا قبل الاحتلال من نهب للخزائن وكنوز الجزائر التي هرّبها عساكر الإحتلال، والضحايا الذين أبيدوا ولسلالتهم حق المطالبة بهم .وأبرز مثال على ذلك الجماجم التي ما تزال شاهدا في متحف الإنسان بباريس، والتفجيرات النووية جاءت نتيجة الإحتلال وكان فئران تجاربها شعب الدولة المحتلة، وبذلك التعويض سيشمل كل المسببات التي ترتبت عنها هذه التفجيرات.
للمجتمع المدني دور في المعركة
- في هذا السياق أيـــــن مسؤوليتنـــــا في الضّغط على فرنسا لجرّها نحو الاعتراف والتّعويض؟
هنا الدور يأتي في قسمين: الدولة الجزائرية مطالبة كهيئة معبرة عن السيادة التي يرمز إليها العلم الوطني وختم الجمهورية، فهي مطالبة قانونيا وأخلاقيا. وواجب المسؤولية والسيادة أنها تطالب الدولة المحتلة بالإعتراف بحقوقها، لأنه حق الدولة الجزائرية في استرجاع أرشيفها ومسروقاتها وكرامتها، وكل ما له علاقة بالسيادة الوطنية.
والتعويضات عن المظالم حق شرعي وهناك محاكم وهيئات دولية يجب أن يصعد إليها الملف، وثانيا المجتمع المدني، صحيح أن الدول التي تربط بينها علاقات دبلوماسية وإقتصادية تحتم السكوت على بعض الأمور وتأجيل بعض الملفات إلى وقت آخر.
لكن المجتمع المدني له دور عظيم أيضا في هذه المسألة، فهو المحرك والدافع والضاغط. المجتمع المدني الجزائري المقدر بمئات الآلاف حين يكون أداة ضغط بالدفع نحو المطالبة بالحقوق التاريخية المتعلقة سواء بالتعويض أو الإعتراف بالجرم أو بتقديم الدلائل، وهي الوثائق التي أخذها المحتل.
كل هذه الأمور تكون أداة ضغط لدفع الحكومة الجزائرية على الإستجابة للضغوطات، فالمجتمع المدني في اليابان دفع حكومته للضغط على أمريكا لتعترف بجرائمها، فيما دمرت فيه هيروشيما ونكازاكي، وكيف ضغط المجتمع اليهودي عبر العالم واستطاع إرغام كل البلدان الأوروبية الكبرى على دفع التعويض لما لحق باليهود في الحرب العالمية الثانية فيما سمي بالمحرقة المزعومة.
ولماذا فرنسا العام الماضي عوّضت يهود الجزائر، لما لحق بهم نتيجة قرار حكومة فيشي من مس معنوي بحرمانهم من التدريس وتجريدهم من الجنسية التي منحها لهم قرار كريميو؟ هنا فرنسا تكيل بمكيالين، ولماذا المجتمع الجزائري لا يضغط على الدولة الفرنسية لتعترف بما لحق بالشعب الجزائري إبان الإحتلال من أذى معنوي وجسدي؟
إذا كان الأذى الذي لحق باليهود مدة ثلاث سنوات، وحينما عاد ديغول ألغى قرار فيشي وأعاد سريان قرار كريميو وإعادة الإعتبار المادي والمعنوي لليهود، بينما الجزائريون الذين تضرّروا مدة 132 سنة وأبيدوا لم تنحن فرنسا ولم تعتذر، إذن المسؤولية يتحملها الطرفين وكذلك المؤرخ، هو المسؤول عن الذاكرة والتواصل ما بين الأجيال وعن استمرارية السيادة الوطنية وكل ما يتعلق بكيان الأمة ووحدتها، ومن واجبه صيانة هذه الأمانة التي هي تاريخ هذا الشعب ومعاناته.
يجب على البحث التاريخي أن يتواصل ويتكاثف ويكون غزيرا في الإنتاج التاريخي لأن المكتوب يبقى الشاهد، ويبقى للأجيال والضامن للتواصل وما يكتب من بحوث ودراسات حول هذه الحوادث ليجدد الذاكرة لدى الأجيال حتى لا تسقط هذه الذاكرة بالتقادم، ويبقى دائما من يطالب بها أو يكون له دليله في يده موثقا ومكتوبا ومحافظا عليه.
فإذا لم يحققه الشعب الجزائري في السنوات الحالية، ستحققها الأجيال القادمة بما تمتلك من معلومات موثقة ومكتوبة بنزاهة.
- في هذه النّقطة، أين وصلت الدراسات الجامعية حول موضوع التفجيرات النووية؟
الدراسات في هذا الموضوع مازالت ناقصة، هذه حقيقة..الدراسات في هذا المجال ما تزال غير مشجعة لأن ما نعيشه اليوم شبه ردة في مجال التاريخ الوطني، خاصة فيما يتعلق بالحركة الوطنية وحرب التحرير، وللأسف نعيش إنحصارا وسيؤدي في النهاية إلى عدم وصولنا إلى هذا الطموح وهو توصيل الرسالة كاملة للأجيال بمؤرخين تتوفر فيهم كل الشروط العلمية في الكتابة والصياغة والبحث التاريخي.
إذا كانت الدراسات التاريخية بالجامعة منذ السنوات الأخيرة في إطار النظام القديم تدرس الحركة الوطنية في سنة كاملة على الأقل 30 أو 35 محاضرة، ففي النظام الجديد «أل.أم.دي» طالب التاريخ يحرم من تدريس مادة الحركة الوطنية في سنة، فقد اختزلت في عشر محاضرات تقدم خلال سداسي، وفي كل دول العالم تدرس الثورة الجزائرية خلال عام إلا جامعة الجزائر.
بمعنى أن الطالب والأستاذ مهما أوتي من سرعة وقوة فهم، لن يغطي الفترة من 1919 إلى 1954 في 15 محاضرة، فهذا مستحيل، إذن لا يستطيع أن يصل إلى سنة 1945 فتبقى أهم مرحلة هي 1945 و1954 يجهلها الطالب تماما، وهي مرحلة النضج في الفكر الوطني والعمل في الحركة الوطنية.
الحرب التّحريرية غير قابلة للاختزال
@ وحرب التحرير هل نالت حقّها وتمثّل الاستثناء؟
@@ نفس الشيء مع حرب التحرير، هل يمكن أن تختزل الثورة في 10 محاضرات، خاصة وأن السداسي الأول أطول من الثاني، فالأول يبدأ في شهر سبتمبر وينتهي شهر جانفي والسداسي الثاني يبدأ في فيفري وينتهي في ماي، بالمقابل شهر مارس فيه عطلة 15 يوما، بمعنى أن له 03 أشهر ونصف دراسة فقط إذا لم يكن هناك إضراب أو عيد وطني يتخلله، هل يمكن للطالب أن يدرس الثورة الجزائرية التي شهر نوفمبر لوحده يحتاج إلى ثلاث محاضرات أو أربعة، وسنة 1955 تحتاج لخمس محاضرات أو ست وسنة 1956 لوحدها تحتاج ست محاضرات؟ وقس على ذلك بقية السنوات والأحداث التاريخية.
على الأقل الثورة نستطيع إنهاءها في أربعين محاضرة، كيف نختزلها في عشر محاضرات؟ الأستاذ الذكي والطالب الحارس على الحضور لن يتجاوز سنة 1956، بمعنى أنّنا نخرج الطالب ناقص الحركة الوطنية أي ست سنوات الثورة لا يدرسها بعمق، بمعنى أنني أخرج مؤرخا يجهل الحركة الوطنية وحرب التحرير، وعوضت لهم بأن يدرسوا مقياس المخدرات، الحوكمة، وأخلاقيات المهنة خلال سداسي كامل، فيما ينفع الطالب.
إذا كان التاريخ في حد ذاته هو علم الأخلاق ويقدم الفضيلة للأجيال القادمة، إذن العملية مقصودة وأتمنى من الدولة الجزائرية المستقبلية أن تعي هذا الموضوع لأن القضية هي قضية تكوين أجيال وتتعلق بالذاكرة الوطنية ومصير السيادة الجزائرية ووحدة جمهوريتها، إذا لم نكون المؤرخ الجزائري الذي يسعى إلى صيانة هذه السيادة واستمراريتها الدولة الجزائرية بعلمها ووفي لأسلافه من شهداء ومجاهدين.
@ ماذا تقترحون في تصحيح خلل المعادلة التاريخية؟ أي مدرسة أنسب في هذا التوجه؟
@@ ندعو لمدرسة تاريخية حقيقية تكوّن المؤرخين، الشّهيد ديدوش مراد يقول: «إذا استشهدنا فدافعوا عن ذاكراتنا»، وهو أحد الذين صاغوا بيان أول نوفمبر وأصغر قائد في مجموعة الستة، وهو أول شهيد في قادة الثورة، حمّلنا مسؤولية وكل من لم يستجب لوصيته أعتبره ناقصا وطنيا، المحافظة على الذاكرة هي تكوين جيل يقدّس الذاكرة، نحن في جيل يجهل الذاكرة الوطنية.
المسؤول هو مخطّط المنظومة التربوية وهي الدولة، وعليها أن تكون وفيّة لمحرّرها وشهدائها خاصة مستقبل هذا الوطن عبر جامعاتها ومراكز التكوينية بالإعداد الفكري والعلمي بالأكاديميين، الذين يحافظون على هذه الرسالة، لأن عدو الأمس مازال يتربّص بنا اليوم وغدا، ومن افتكّت منه مطامعه التي كان يستغلّها بالأمس مازال ينتظرها بالغد.