الاعتراف بإمكانية العقل والتأويل وتجاوز القيود
في سياق المتغيّرات العالمية، وفي ظل التفاعل مـع الآخر في جميع مجالات النشاط البشري، فإن الخطاب النقدي العربي قد انفتح معرفيا ومنهجيا على هذا الآخر، ونقصد بالتحديد الآخر الغربي، ولم يكن هذا الانفتــاح الثقافي بالأمر الجديد على الأمة العربية، لأنـها تفاعلت مع غيرها من الأمم والحضارات، بخاصة في العهد العباسي، حيت تم التفاعل مـع الحضارات الفارسية واليونانية والهندية. وهذه الورقة وقفة عند بعض آراء المفكر الناقد والشاعر السوري أدونيس حول مسائل هامة في السياق العربي.
أدونيس، الأنـا والآخـر..
لقد فتح أدونيس أسئلة الأنا والآخر، وبحث في مجمل ما تتوجه إليه من قضايا الفكرو الإبداع، وانطلق من التنوع الثقافي عندما قارب الحداثة، «وينبثق سؤال الحداثة مع أدونيس ليظل على مدى مسيرة كاملة من الوعي والتساؤل، يحاول أن يحلّل ويناقش مظاهر هذه التحوّلات منطلقا من ضرورة النظر إلى الأشياء في سياقاتـها و تجلياتـها، والبحث المستمر عن علاقاتـها بالإنسان في حركيته النابعة من طبيعة السؤال» (19).
وقبل أن ينطلق أدونيس لبحث مسألة الحداثة في الكتابة العربية، يؤكد على ثلاثة مبادئ (20) :
1 ـ قبل أن نصف كاتبا أو شاعرا بأنه حديث، يجب أن نتأكد بأنه يعبر عن نفسه وعن علاقته بالآخرين والعالم بلغة أدبية فنية وبطريقة خاصة تميزه.
2 ـ معرفة عميقة ومحيطة للقديم، مع الإدراك بأن صفة القدامة لا تعني بالضرورة التناقض مع القديم.
3 ـ إن صفة الحداثة لا تعني حكما بأفضلية الحديث على القديم، و إنما هي مجرد وصف، فالحداثة سمة فرق لا سمة قيمة.
من الأسئلة التي يفتحها أدونيس سؤال الانفصال في محاولات التحديث العربية بين الآداب والفنون وبين الحياة الاجتماعية والسياسية، فكيف تنشأ حداثة أدبية في مجتمع تقليدي من حيث بنياته المادية والفكرية؟. ويندرج هنا كذلك سؤال الفصل العربي بين التشكيلات اللّغوية للحداثة وأسسها العقلانية، فنحن العرب «رأينا تجليات الحداثة في ميدان الفنون والآداب، دون أن نرى الأسس النظرية والمبادئ العقلية الكامنة وراءها، ومن هنا غابت عنا دلالاتـها العميقة في الكتابة وفي الحياة على السواء» (21).
لا تعني حداثة أدونيس الإلغاء الجذري للموروث/ الماضي، بل هي استمرار معه، ولا يمكن تجديد اللغة إلا من داخلها، من داخل عبقريتها وجماليتها وخصوصيتها، كما أن أهم شرط للحداثة الشعرية هو معرفة الذات / اللغة / التراث، كما أنه الشرط الأول للعلاقة مع الآخر.
الأنا والآخر في وعي التجاوز
عند تأمل جملة الأسئلة بين الأنا والآخر في وعي التجاوز عند أدونيس، نجد الاهتمام بالاختلاف بين الحداثة في الغرب والحداثة في المجتمع العربي، ومن نقاط الاختلاف ذكر(22).
1 ـ نشأت الحداثة في الغرب في تاريخ من التغير عبر الفلسفة والعلم والتقنية، ونشأت الحداثة العربية في تاريخ من التأويل (علاقة الحياة والفكر بالوحي وبالماضي).
2 ـ الحداثة الغربية مغامرة في المجهول، والعربية عودة إلى المعلوم.
3 ـ الأولى تؤكد على الأنا/ الذات، والثانية تؤكد على النحن / الأمة.
4 ـ الأولى لا مرجعية لها إلا الإبداعية، والثانية قائمة على المرجعية من كل نوع.
5 ـ الأولى تتحرك في عالم لا سيطرة فيه للمقدس وللرموز الدينية، والثانية تعيش في مجتمع لا سيطرة فيه إلا للمؤسسات والرموز الدينية.
ومن هنا فالناقد يذهب بعيدا في كشف النقاط السلبية التي تحاصر محاولات التحديث الأدبي والفكري العربيين، وهو «في كل مرة يدافع فيها عن الحداثة يعتبرها غالبا وهما في مجتمع عربي لم يحسن بعد صياغة سؤاله المعرفي، وأنـها مجرّد تباه أو تمويه، ويعيدنا مرارا إلى النظر في أوهام الحداثة ليعلن أننا لم ندرك بعد حدود حداثتنا»(2)، وذلك لأن الحداثة لا تنشأ مصالحة وإنما هجوما، وهي تحتاج إلى مشروع ثقافي حضاري شامل، والحداثة الشعرية العربية محاصرة بنظام معرفي ضد الإبداع أو الإتيان بالجديد، ولا خلاص إلا
بتجاوز هذا العائق المعرفي والجهر بتفكيك هذا النظام، ولا يمكن أن ننسى ـ في هذا السياق ـ المجهود الأدبي النقدي الذي قامت به مجلة شعر، قصد تقديم البدائل الإبداعية والفكرية الجديدة المختلفة عن السائد/ الموروث (24).
كما يبحث أدونيس في مسائل هامة أثناء تناوله للدراسات الحديثة حول التراث، وقد اعتبرها تتحرك في فضاء الأفكار المسبقة الجاهزة، لأنـها تعيد الأسئلة ذاتـها التي فتحت حول الأصول، بل إنـها تعيد الأجوبة كذلك، ومن هنا يتساءل : «إذا كان الأسلاف قرأوا هذه الأصول بطرقهم الخاصة وأفقهم الخاص، وكتبوا قراءاتـهم، أي جسّدوها في نتاج فكري، فلماذا نتبنى اليوم قراءتـهم؟، ولماذا يلزمنا نتاجهم؟، أو لماذا لا نقرأ نحن هذه الأصول قراءتنا الخاصة حول اللغة والوحي والنبوة والشريعة والشعر؟، وحول الذات والآخر؟، وحول الأصيل والدخيل؟»(25). وهو يدعو إلى تحديد مستويات جديدة من البحث النقدي من قضايا الأصول، أي مستويات تستجيب للمشكلات المختلفة والعصر المختلف، ليصل إلى أن قراءة الفقهاء للأصول والإشكالات التي تصيب المجتمع ما تزال هي السائدة، بمعنى أن الثقافة العربية السائدة هي ثقافة الفقهاء (السلطة للنصّ لا للرأي).
ولأن الأسئلة حول الأنا والآخر لا تتوقف عند حدود الأدب والفنون فقط، فالناقد يتجه نحو الدين ليصل إلى أن «عدم تحليل الدين (النبوة، الوحي، النصّ) من حيث هو مصدر معرفي ومنهج معرفي ونظام معرفي يهيمن على الوعي العربي وعلى الحياة العربية ..إنما هو إهمال لمادة الفكر الأولى في المجتمع العربي، والفكر الذي لا يفكر في أصله لا قيمة له، ولن يكون إلا قشرة يابسة»(26)، ولا يمكن معرفة قيمة الفكر من دون البحث في تاريخ القيمة الفكرية فيه، ومن ثمة لا مهرب من إقامة دراسة علمية عقلانية لأصول الفكر العربي الإسلامي، برؤية معرفية نقدية، فيها الإبداع لا الجمود، وفيها النقاش الفكري المتنوع والمفتوح، وليس المحدود والمنغلق.
يحرص هذا الناقد الشاعر على محاورة الموروث والبحث في جزئياته، ويرى بأنه «لا يمكن أن تبدأ الثقافة المختلفة إلا بنقد الموروث نقدا جذريا وشاملا، إذ لا يمكن أن نبني ثقافة جديدة إذا لم نخلخل نقديا بنى الثقافة القديمة، دون ذلك تكون الثقافة الجديدة طبقة تتراكم فوق طبقات الثقافة القديمة بحيث تمتصها هذه الأخيرة، ولا تكون لها أية فاعلية»(27)، ويقترب من المفكر مالك بن نبي عندما يحرص على الإبداع الثقافي وسلطة الفكر، فهما ينتجان الإبداع والسلطة في مجالات السياسة والاجتماع، والإبداع هنا لا يعني اجترار الماضي، وإنما هو حركة دائمة واختلاف عن الذات والآخر في الآن ذاته. ويذهب أدونيس إلى أن التراث ليس واحدا، فـ «الماضي الذي يستعاد بوصفه موضع الأصالة ومرجعها إنما هو ماضٍ متعدد، إنه ماضي جماعة معينة، أو نظرة معينة، فلكل ماضيه وتراثه وأصالته، كأن الماضي/ التراث مرآة، وكل يرى فيها صورته وحده، فما تطابق معها هو الأصيل، وما تنافر معها هو الدخيل، والذين يصارعون ويفكرون داخل هذه المرآة هم ـ على الرغم من تباينهم ـ واحد، إنـهم يلغون الحضور بوصفه مستوعبا في الماضي» (29).
يحرص هذا الناقد على مجموعة من القواعد التي يجب أن تتوفر عند إعادة تقويم الثقافة العربية في جانبها التراثي (29).
1 ـ النظر إلى الناتج الثقافي بذاته في معزل عن المنظور الديني العقدي، والنظر إلى الفكر الديني كنتاج ثقافي.
2 ـ ضرورة توفر عامل الحرية، ورفض المؤسسة التي تعتبر الدين إرثا خاصا أو التي تتحدث باسمه.
3 ـ لا قدسية للتراث، فهو حقل ثقافي عمل فيه وأنتج بشر مثلنا.
هكذا ينطلق أدونيس من مرجعية فكرية تحدد مشكلية الحضارة العربية بأنـها مشكلية الوحي/العقل، الدين/الفلسفة، الروح/ الجسد القديم/ المحدث، على المستوى النظري العام، والمضمون/الشكل، أو المعنى/ اللفظ، على المستوى الأدبي الخاص، ويدعو إلى إعادة القراءة لهذا التراث الحضاري الذي أوجد -راهنيا -مشكلة العرب/الغرب، أو النبوة/التقنية، ولا حل للتحديث الربي إلا بنقد عميق لهذه المشكلية « وتجاهله أو إهماله أو تأجيله يخفي عجزا إزاء الواقع والتراث معا، نظريا وعمليا، ويعني بالتالي إما استلابا إزاء تراث الشعوب الأخرى وواقعها، وإما إزاء التراث القومي»(30). يكشف أدونيس ـ في سياق العلاقة مع الغرب ـ أن الذات العربية قد صارت تتحرك بين ثقافتين، الأولى عربية محاصرة بالماضي وبالدين، والثانية غربية تقوم على التقدم والتقنية والسيطرة، ومع العولمة ظهرت التماثلية وغاب الاختلاف الثقافي، ليصل إلى رأي متميز حول راهن الثقافة العربية، يقول: «إن هذه الثقافة انتهت، وهي لم تنته لأن أعداء الثقافة هم الذين يهيمنون، بل لأن المجتمع العربي يدير ظهره للمشكلات التي تواجهه، تلك التي طرحتها عليه خصوصا حركية العالم الحديث، والتي هي الجديرة بأن يتساءل حولها و يفكر فيها، لأنـها هي وحدها التي يمكن أن تخرجه من سباته التقليدي، وتفتح له طرقا جديدة لثقافة جديدة وإنسان عربي جديد» (31).
تمتد أسئلة الأنا والآخر والعلاقة بينهما لدى أدونيس وهي لا تتوقف عند البعد الجمالي والأدبي فقط، وإنما تشمل مساحات عديدة تـهم الإنسان العربي المعاصر، شأن سؤال الحداثة والنهضة العربيتين، وقضايا العقلانية وحرية الإنسان وغيرها من القضايا الهامة (32)، لذلك البحث في رؤى أدونيس يقتضي البحث في مرجعياته ومصادره الثقافية، ومن ثمة البحث في موضوعات كثيرة مثل مفهوم الحداثة، النفس بين الانسحاق والحرية، الموقف من الموت والجنس، الأساطير والعقل، الإلحاد، المصادر التراثية للحداثة، الحداثة والتصوف (33)
ويبقى أدونيس يدعو إلى الانفلات من الصورة الثقافية المهيمنة، سواء أكانت دينية ـ مذهبية، أو عقلانية ـ تقنية، للوصول إلى أقصى محطات التفتح الإنساني بالإبداع، يقول أدونيس بأن التفتح « هو الذي يتيح لنا العلاقة الأكثر جمالا وغنى وإنسانية مع الآخر، ذلك أنه الأكثر قدرة على كشف الذات لذاتـها، وعلى أن يكشف لها بعدها الآخر، والذات في حاجة إلى هذا البعد، لا لكي تتماهى وحسب، وإنما لكي تتفردن أيضا في الوقت ذاته» (34).
ختاما..ــ
تحتاج تأملات وآراء أدونيس إلى وقفات كثيرة، لكي يكون بالإمكان القبض على مفاتيح أسئلتها، بخاصة وهي أسئلة تنتقل عبر الأزمنة والأمكنة، ومن ثمة بين الفضاءات الدينية والفكرية والأدبية وغيرها للحضارتين العربية والغربية.
هي أسئلة تمنح الفكر خصوبة، وتجعل الوعي منفتحا متقبلا للآخر، يحاوره من غير انبهار ويتأمل ذاته التراثية من غير احتقار، مع ضرورة الحفاظ على الاختلاف، والاعتراف بإمكانية العقل والتأويل، وإبعاد القيود والسلطات التي إن دخلت الميدان الإبداعي خنقته بجدران تصوراتـها وغلقت عليه داخل الماضي والثبات، لذلك وجدنا أدونيس باحثا عن حوار معرفي عقلاني مع الأصول أوالمنجز الأدبي/ الفكري باعتباره منجزا ـ قراءة إنسانيا، وليس سلطة لاهوتية أو سياسية.
ملاحظة: للدراسة مراجع