هل «الحرقة» الحل للهروب من واقع مزر؟ هل «الحرقة»حل لمشكل الحصول على منصب شغل يضمن العيش الكريم؟ هل «الحرقة» هي الطريق المؤدي إلى تحقيق حلم الهجرة إلى الضفة الأخرى من المتوسط؟ إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لبعض الشباب الذين جازفوا بحياتهم لتحقيق «وهم» من أجل عيش أفضل، فإن أغلب الشباب لا يشاطرونهم الرأي والخيار لا يطرح بالنسبة لهم ليس لأنهم يعيشون حياة أو ظروفا أفضل، بل لأنه ذهاب إلى «انتحار مقنّع» بكل بساطة.
الأمواج نفسها التي داعبت أرجلهم الصغيرة وهم أطفال صغار، الأمواج نفسها التي كبروا على صوتها الشجي في الفصول الأربعة، بالأحياء العتيقة الواقعة على الساحل العاصمي وتحديدا بحي رايس حميدو، هي نفسها التي اعترضت طريقهم وهي في أوج الغضب خريف العام 2018 لكن هذه المرة من الضفة الأخرى من المتوسط، ملتهمة شبابا في عمر الزهور، همهم الوحيد البحث عن مستقبل أفضل، شباب تكسر حلمهم على صخرة جزر تبعد عن «ايطاليا» الحلم 15 كلم فقط.
لم يكن شباب رايس حميدو الذين ركبوا قارب الموت ظنا منهم بأنه طوق نجاة، يدركون بأنها آخر رحلة في بحر منحهم أجمل اللحظات في الطفولة والشباب لم يسلموا من غضبه، وكأنه رفض تركهم الرحيل إلى الضفة الأخرى منه، معترضا حلما «حلم كاليريا» تأكد أنه وهما.
اليوم الأربعاء، المكان عنابة، وسيلة النقل قارب الموت دون رقم، الضحايا 13 شابا بينهم 12 من العاصمة ومن حي واحد، داعبوا حلم الرحيل، شأنهم شأن شباب رسمت لهم صورة مثالية خيالية عن الضفة الأخرى، إلى درجة غادروا بحياتهم، دونما التردّد لحظة، ورفعوا الثمن باهظا لحياتهم، تاركين وراءهم أمهات وأبناء، أخوة وأخوات، أقارب وجيران يبكون فلذات كبدهم .
18 مليون سنتيم ثمن الموت
في عرض البحر
مدة الرحلة 18 ساعة، كلفتها 15 إلى 18 مليون سنتيم، رقم الرحلة 7، الوجهة سردينيا الايطالية، الهدف تحقيق الحلم بالعيش في القارة العجوز، الطقس ملائم، دادي و زينو... وغيرهما جاهزون لمواجهة الموت مجددا، لأنها ليست الرحلة الأولى، لكن الرحلة دامت أكثر من 30 ساعة والبحر رفض ترك الشباب اجتياز الكيلومترات الأخيرة، فارتفعت موجاته العاتية ودرجة برودته، وبدأ القارب يتمايل والمياه تغمره، الخوف يزداد والظلام يرخي سدوله بسرعة، وكأنه يساعد البحر على التهام شباب مانعا إياهم من تحقيق الحلم.
وحده البحر الذي ابتلعهم وأعاد لفظهم جثثا هامدة الذي اعترض وعارض انتقالهم إلى الضفة الأخرى، لا خفر السواحل ولا حتى قارب الموت الهش هشاشة قلوبهم البريئة، وحده البحر حرق قلوب ذويهم، راسما إحدى أبشع صور الحزن على تقاسيم وجوه عائلاتهم، وعلى جدران حي رايس حميدو التي لم تسلم بدورها من قساوة بحر كانت مقبولة، إلى أن رآها الشباب ـ رحمة الله عليهم ـ على حقيقتها من الضفة المقابلة، وحده البحر يتحمل أنين الصدور ودموع المفجوعين في ذويهم، فكيف لبحر تربوا على شواطئه أن يختطفهم في ريعان الشباب ودونما رحمة بهم.
صور مؤلمة إلى درجة تمزق القلوب، صور وقفت عليها «الشعب»، التي تنقلت إلى الحي وترقبت مع الأولياء والجيران أخبارا عن الأبناء، الذين قفزوا إلى البحر حتى وهو في أوج الغضب هاربين إلى أحضانه من قارب الموت، فكان بدوره بحر الموت، اللحظات كانت في غاية الصعوبة لأن الأمل قائم، حتى وإن اتضح أنهم قفزوا على بعد كيلومترين وليس مترين، مثلما اعتقدوا عندما ظهرت أمامهم صخور جزيرة ظنوا بلوغها سريعا.
أهل وأقارب وجيران فجعوا
في خيرة شباب الحي
الأمل كان ممزوجا بالغضب، غضب على إخوة وجيران وأقارب حضروا سرا لرحلة الموت، من دون إعلام الأحبة خوفا من أن يعترضوا طريقهم إلى حتفهم، خوفا من أن يسمعوا صوتا من الخارج، ينضم إلى الصوت الداخلي صوت العقل، الذي يدرك تماما بأنه لا خير من رحلة على متن قارب موت وفي بحر قد يظهر وجها آخر في أي وقت، من صوت داخلي يدرك أنه حتى وفي حال اجتياز رحلة الموت، فإن رحلة العيش ستكون موت يومي أكيد، بسبب الظروف التي يعيشون فيها، ستكون موت حتى وإن بقوا على قيد الحياة، لأنه وبكل بساطة لا توجد الحياة المثالية التي اعتقدوا عبثا أنها موجودة.
من مدخل حي رايس حميدو المحاذي لحي باب الوادي الشهير، كل جدران الأحياء التي ترعرع فيها شباب المنطقة من «بوسيجور» إلى «علي ملاح»، كلها شاهدة على مأساة صنع فصولها شباب همهم الوحيد عيش أفضل، فكان مصيرهم الهلاك، ليدخل ذويهم وأقاربهم والجيران وكل من يعرفهم دوامة حزن وترقب، رغم أنهم يدركون تماما بأنهم قفلوا إلى البحر على بعد 2 كلم من اقرب جزيرة بحثا عن النجاة، واحتمال إيجادهم على قيد الحياة شبه منعدم.
عندما ترى وجوه شباب الحي، أهل وأقارب المفقودين في تلك الأثناء، تدرك تماما أن «الحرقة» كما أصطلح عليها مأساة وليست حلم، وهو ما يبرر إخفاء، كل من يعتزم القيام بها، الأمر عن أقرب المقربين إليه، لأنه يدرك تماما بأنه انتحار مقنّع، لأنه يعي بأن الجميع سيكتوي بنارها، فرحلة في عرض المتوسط تدوم 18 ساعة في أحسن الأحوال في أوّج فصل الخريف، تحمل الكثير من المخاطر.
المفاوضات مع صاحب القارب قام بها أحد الشباب، الذي لم تكن محاولته الأولى ورغم أنه اقترب كثيرا من الموت، مثلما روى لأصدقائه، إلا أن ذلك لم يمنعه من إعادة الكرة، واعلم أبناء الحي المهتمين الجاهزين، علما ان المقابل مثلما أكد أصدقائهم لـ «الشعب» يقدر بـ 15 إلى 18 مليون سنتيم، يدفعها كل شخص وعددهم 12 إلى 13، وتم الاتفاق على الموعد المشؤوم موعد الإبحار، صباح الأربعاء وتحديدا الخامسة صباحا من عنابة، إلى الوجهة إيطاليا.
ومن أجل ذلك ركب الشباب حافلة من العاصمة، مساء الثلاثاء، وقضوا الليلة كلها في الطريق، وركبوا على متن الزورق، صباح أربعاء بارد برودة قلوبهم أمام مصير اختارهم أو اختاروه للمواجهة الأخيرة في عمر يكاد يبتدئ، ركبوا في رحلتهم الأخيرة وهم جياع لم يتكلموا شيئا من القلق والتعب والإرهاق، والتفكير في مواجهتهم مع الموت حظوظهم فيها شبه منعدمة.
إيطاليا أسهل وجهة
لتحقيق الحلم
لماذا إيطاليا هو السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان بطريقة آلية، وأنت تستمع لسرد مؤلم لأبشع موت قد يذهب إليه المرء بكامل وعيه، الجواب بسيط للغاية لأن الوصول إلى سردينيا بعد تجاوز الحاجز البحري، يعني أن الحلم تحقق، ففي إيطاليا يتم احتجازهم بمركز لمعالجتهم والتكفل بهم 7 أيام، قبل أن يتم نقلهم عبر باخرة إلى إيطاليا للعودة إلى بلدانهم، عكس اسبانيا وفرنسا التي تطردهم.
الكل يجمع على حسن خلق الشباب وتربيتهم الجيدة، شباب يعملون وان كانت مناصب هشة، إلا أنهم كانوا يتقاضون راتبا، لم يكن كافيا على الأرجح لتوفير حاجياتهم وتلبية أغراضهم، أو ربما بكل بساطة أنهم اقتنعوا بأن هدفهم في حياتهم القصيرة تحقيق «الحلم ـ الوهم»، لا يبرر بأي حال من الأحوال بحسب ما أكده شباب الحي القفز نحو المجهول، لأننا وبكل بساطة ـ يجزمون ـ نعيش ونتقاسم الوضع نفسه.
تمر 18 ساعة ثم 20 ساعة فـ 25 ساعة ولا يظهر شاطئ في الأفق، ولا حتى الجزيرتين التي تبعد بحوالي 15 كلم عن سردينيا وتؤشر على قرب الوصول، إلى أن مرت 30 ساعة كاملة تزامنت مع ارتفاع أمواج البحر إلى أكثر من مائة متر غمرت الزورق بالمياه، ليتسلل الخوف والرعب إلى قلوب الشباب الذين أنهكتهم ساعات الترقب وساعات السفر التي مرت كالسنوات، واتخذوا بعدما نال منهم تماما قرار القفز إلى ماء بارد بعدما رأوا صخورا اعتقدوا أنها على بعد أمتار، اتضح لاحقا أنها على بعد 2 كلم.
قرار القفز إلى مياه البحر الباردة لم يتخذه الجميع، ذلك أن 3 منهم كتب لهم النجاة، فضلوا البقاء في القارب وان كلفهم الأمر حياتهم، لأنهم كانوا على يقين بأنهم غير قادرين على السباحة وبأن أجسادهم المنهكة ما كانت لتتحمل درجة برودة المياه، وافترق الجميع على أن يبلغ الشباب بعد وصولهم الى الشاطئ خفر السواحل لنجدة أصدقاءهم الذين بقوا على متن الزورق.
صباح السبت، وصل فعلا خفر السواحل إلى القارب، إلا أن الناجين علموا لاحقا بأن أصدقاءهم لم يصلوا أبدا، وأن تم التقاطهم بحسب شهادات أبناء الحي عن طريق طائرة مروحية، كان ذلك، يوم السبت اليوم الرابع، من رحلة الموت، الأمل قائم رغم كل شيء، الجميع ينتظر المعجزة، معجزة لم تحدث للأسف واحترق الجميع بأخبار بروز جثث هامدة، كانت نهاية شباب همهم الوحيد البحث عن عيش أفضل.