طباعة هذه الصفحة

اللوحة الناقـصة

عيسات أمال عائشة / مستغانم

هكذا هي الحياة لوحة لا تتم وأنشودة لا تكتمل .. وسيمفونية مبهجة أحيانا .. وشجية أحيانا .. وناقصة غالبا .. لكن الأمل في الله ورحمته لا ينقطع أبدا ..
لقد شمخ  وسط القرية بيت كالجنة من الخارج كاد يقتلني الشوق لدخوله فقد كان من أقدم البيوت وأجملها، كأن من رسم صممه يعشق التاريخ فأفصح عن ذلك في تصميمه، ورائحة  حديقته تبعث في قرائح الشعراء ما يبعثه شعاع القمر في قرائحهم،  مع مرور  الأيام صادفت شابة تهتم بحديقته  وما إن أهديتها سلامي تبين مكنون نفسي لها، فدعتني لشرب الشاي  ولم تبخلني بجولة  داخل ذلك المتحف لم يطل ذهابي وإيابي داخله حتى لاحظت وجود صورة لامرأة تشبه لحد كبير الفتاة التي ضيفتني، وبين تساؤلي وحيرتي حول من  تكون هذه المرأة قالت لي « إنها جدتي الكبرى، التي لطالما كانت رمزا لثورة عائلتي وقوتهم  « . ختمت الزيارة بتلك الجمل ذلك اليوم .
في تلك الليلة وأنا ضائعة بين بياض أوراقي وحبر قلمي وجدتني أصف تلك الجدة وكان الفراغ بين كلماتي ظاهرا لكل مبصر، وعند شروق الفجر توجهت نحوريم أراودها لتخبرني عن كبيرة العائلة، حينما وصلت إليها ولشدة حماسي لم أطل الحديث وقلت « قد يكوني طلبي غريبا نوعا ما، لكن لم تغب صورة جدتك عن مخيلتي قط، وكأن تخفي داخل عينيها حزنا عميقا بنا لها ستارا حديديا من الصبر والعزم، لذا أحببت لوأعرف القليل عن حياتها  «
ريم « جدتي لم تكن أميرة ولم ترضى يوما أن تكون كذلك، جدتي محاربة في ساحة الحياة . عندما كسرت كانت لا تزال زهرة في أول عمرها .. فقد تزوجت كأي فتاة في ذلك الوقت وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وكانت صداقتها بزوجها حديث نسوة القرية فضرب بهم مثل الحب والاحترام وتخليد شعائر الدين وتقديسها، وما زاد من تعلق قلوبهما ببعض أول مولود لهم، وكأن الأشجار أينعت فعمت البهجة منزل « بنت قيوس وزوجها «، ولكن حان وقت الرحيل وتوجه البعل البار نحوحرب الهند الصينية  التي خلفت شهداء كثر ومن بينهم « السي جلول « وفي تلك الأثناء أدركت «بنت قيوس «  أنها ستلد مولودا آخر، كيف لك أن تصدق أن حياة بعثت في جنين وسلبت من آدمي  آخر، لقد كان أسوء من الجلوس وحيدا في محطة القطار حيث يلتقي الأحباب وأنت تنتظر حدوث شيء لك، حينها ماتت زهرة لم تألف سوى الحب والسعادة . «
كانت ريم تحكي لي وقد ملئت الدموع وجهها الذي يوحي بالقوة، وكأنها عاشت ذلك الأسى، لذا استلزم الأمر أن أقول شيئا .. « مع الوقت نفهم أن ما كنا اليوم لولا تعب الأمس، فكل كسر له دور في بناء جزء من روحنا، لولا الحزن لما وجدت السعادة، ولولا الصعاب لما شعرنا ان الحياة تستحق كل هذا العناء، لم أجرب ما عاشته جدتك ولكننا نحزن بنفس الطريقة عند فقدنا لما نحب ونهوى، فالتعلق أقسى من الجلد، في حين أن جميع الناس ينتظرون أدائنا المبهر فوق منصة الحياة غير مهتمين بما نعانيه خلف الكواليس، بدل ذرف الدموع التي أحرقت عينيك وقلبك اجعلي من حياتها عبرة ولروحها المتمردة رمزا لشجاعة .»
ريم « ليس بكاء حسرة، إنما تتشابك مشاعري حينما أروي ما روي لي، أظن أن جدتي مستقلة بما عاشته عن ما عاشه غيرها، فبعد موت زوجها انتقلت للعيش مع والدتها وهي تمسك بطفل في يدها وتحمل آخرا في رحمها، وكي لا تحتاج لأي يد ترمي لها رزقا شفقة ومنا صنعت لنفسها عملا تقتات منه وتنسى همومها وخسارتها به، فكانت تحيك الصوف ملابسا وأحذية، وبينما هي غارقة في عملها وتربيت فلذات كبدها، قررت والدتها أن تزوجها وتؤمن لها حياة أكرم حسب ظنها، وكان زوجها احد أقربائها وغير ذلك كانت تعده كخال لها، كيف للمرأة أن تعيش مع رجل لطالما اعتبرته من أناسها الأقرب وأن تتخلى على حب لملمته التربة في بطنها، كيف لها أن تتحمل صحبة شخص غير من أراده قلبها «
لم أشأ مقاطعتها لكن تم الأمر وقلت لها « لكن الأرملة وقتها لم تكن ذات حول أوقوة اذا قضي الأمر سيكون شاءت أم أبت .. وهكذا جرت العادة عندنا دائما، نظن أن زمن الوأد ول ومضى ولكننا لزلنا عالقين فيه، لازالت المرأة تعاني من سوء الظن وسوء المعاملة رغم أن الدين والحياة  يوجبان حسن معاملتها . «
نظرت ريم مطولا وكأنها شردت في ثنايا حكاية جدتها وكلامي ثم استفاقت وقالت « الأمر كذلك، فقد كان رأي والدتها أنها لازالت شابة  وليس من صالحها البقاء أرملة وبدون زوج يحميها، لم يتم الزواج أيامه حتى انتهى وقد ترك لها ثلاثة أولاد باسمه وبكراها، لذا لم يكن أمامها هذه المرة سوى آن تعتزل الناس وما يؤذيها وتتخذ لها ولأبنائها منزلا يؤويهم شر الأيام وشر الناس، فكانت تعمل ليلا ونهارا وتحصل بضع قروش، خطوة بخطوة قامت ببناء ما لم يبنه الأسياد، وورثت أبنائها نفس الشجاعة والقوة فلا تراهم إلا ورأيتها فيهم، أن تولد في نصف عمرك من جديد وتواجه الخلق  وتلد جيلا نسخة عنك ليس بالأمر الهين، الأمر أشبه بعيش فرح مبتور أوأن تكون طبيب أطفال وأنت لا تنجب، أوالرقص على لحن الموت الذي يفسد المسمع،ما قامت به جدتي فخر لي ولكل عائلتي «
أنهينا جلستنا بعدها بأحاديث أخرى، وقبل حلول ظلام خرجت نحومنزلي وتلك حكاية تصاحبني، في ذلك اليوم أدركت أننا سنرتشف كلنا من كأس الحزن الذي يرهق الوجدان ولكن قلة من يتحملون المرارة ليستحقوا بعدها السعادة الحلوة،  فكم من سعيد أضحى بائسا منتحرا، وكم من صبور نال الفرح مغربا وكم من كفيف أبصر النور فجرا، فلولا المشقة لساد الناس كلهم .