رسم الدكتور مهماه بوزيان الخبير في الطاقة أهم المعالم التي تطبع السوق النفطية في الوقت الراهن خاصة على خلفية تراجع الأسعار والزيادة في العرض، مقدما قراءته الدقيقة للتحديات والعوامل المتسببة في التراجع واغتنم الفرصة ليدعوسونطراك إلى ضرورة التوجه إلى صناعة نفطية منخفضة التكاليف وتحسين السلاسل في الصناعة النفطية من خلال الرفع من قدرات الاسترجاع والحد من الهدر والضياع وجلب تكنولوجيات عالية ورفيعة ومتقدمة، مما سيقلل من التكاليف في مختلف مراحل الإنتاج، بهدف توسيع هامش الأرباح لمجمع سونطراك وشركائه في الحقول الجزائرية.
ما هي قراءتكم لتطورات الأسواق النفطية والتحديات التي يمر بها المنتجون مع عودة موجة التراجع في الأسعار؟
في البداية ينبغي التنبيه أننا أمام أجواء تطبع السوق النفطية مشابهة لإرهاصات الوضع في عام 2013، ويمكن القول أننا نستحضر نفس التداعيات وخاصة ما تبعه من انهيار مريع لأسعار برميل النفط، والواضح أن الإدارة الأمريكية الحالية تستهدف تصغير التوافق القائم بين دول منظمة «أوبك» وشركائها، أوعلى الأقل إضعاف «أوبك» وإغراقها في أزمات اقتصادية دورية، لأن الرئيس الأمريكي صار لا يستهدف إيران بقدر ما يستهدف قرار «أوبك»، فبعد أن توعدها وطالب منها ضخ المزيد من الإمدادات من الخام في السوق تحسبا لسريان العقوبات الشديدة على إيران، نجد الإدارة الأمريكية اليوم تقدم إرجاء تفضيليا لـ 8 دول من كبار مستوردي النفط الإيراني لمدة 6 أشهر، ليستفيق الجميع اليوم على حجم اللعبة وخطورتها، حيث استهدف في النهاية إغراق السوق النفطية بالمزيد من الخام، رغم أننا صرحنا في الملحق الاقتصادي لجريدة «الشعب»، منذ بداية الحديث عن إقرار العقوبات الأمريكية على إيران، وما كان يروج له من إخراج النفط الإيراني من اللعبة، كنا قلنا مرارا بأنه ينبغي التنبؤ ولا يمكن تجفيف النفط الإيراني من السوق النفطية العالمية وسيبقى حاضرا، لذلك لا ينبغي الانزلاق ضمن لعبة زيادة الإنتاج، كما أننا نجدد التأكيد بأن تجاوز سعر برميل النفط لحاجز 80 دولارا ما هي إلا «فقاعة سعرية» ساهم في تشكيلها المضاربون والسماسرة وتوجهات الإعلام المرتبط بالمصالح الأمريكية، لذلك نستحضر ما سمي بـ «أكتوبر الأحمر»، وبالتالي استرجاع الأجواء الشبيهة لسنة 2013، لأنه خلال نهاية شهر أكتوبر الماضي، بدأت مذبحة الأسهم في الأسواق، أي مع تعاظم عمليات البيع المكثفة للنفط بعد أن سجل الخام القياسي العالمي برنت لأسعار كانت في متوسطها هي الأعلى خلال الأربع سنوات الأخيرة، مما أفضى إلى عاصفة للمضاربة والسمسرة في أسواق البورصة لتنتهي بأسوأ أداء شهري لأسعار النفط منذ سنوات، وقد حقق المؤشران الرئيسيان لخام البرنت أكبر انخفاض شهري لهما منذ شهر جويلية 2016، فقد بدأ شهر أكتوبر مع ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية كانت تغذيها النبرة الأمريكية المتوعدة لغيران، والتي أخافت الجميع من النفط غير كافي للجميع في الاقتصاد العالمي.
التوسع في استعمال الغاز الطبيعي
ما هي الأسباب لتراجع أسعار النفط تحت سقف 70 دولارا؟
- يمكن الوقوف خلال الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر الماضي على تراكم عشرة أسباب رئيسية أدت إلى تهاوي أسعار برميل النفط:
1- تجاوز الإنتاج النفطي الصخري الأمريكي لكل التوقعات، فتقارير الأسبوع المنصرم كشفت عن زيادة الإنتاج الأمريكي بزيادة كبيرة بشكل لا يصدق، كانت في حدود 400 ألف برميل يوميا مقارنة مع مستويات شهر جوان الماضي، كما بلغ الإنتاج الأمريكي مستوى 11.8 مليون برميل يوميا، ومع هذه السرعة الكبيرة في نموالنفط الصخري الأمريكي من المتوقع أن يتجاوز الإنتاج الأمريكي من النفط عتبة 12مليون برميل يوميا مع بداية عام 2019.
2- يتعلق الأمر بمسألة منطقة «كركوك» بالعراق، لأنه بعد تسوية الإشكال مع الأكراد من طرف السلطة المركزية في بغداد، صار بإمكان حقل «كركوك» من إنتاج وضخ ما لا يقل عن 400 ألف برميل يوميا.
3- ينبغي التذكير بزيادة الإنتاج من طرف العربية السعودية وروسيا والإمارات العربية والعراق وليبيا خلال الأشهر الماضية، تحسبا لتراجع الإمدادات الإيرانية بفعل العقوبات.
4- ارتفاع مخزونات النفط العالمية بشكل حاد خاصة في أمريكا لتصل إلى حجم 432 مليون برميل.
5- دخول الطلب على النفط عالميا الضعف الموسمي خاصة مع اقتراب فصل الشتاء.
6- عدم خروج النفط الإيراني من سوق الخام مع إقرار الإدارة الأمريكية بمنح إعفاءات لـ 6 بلدان مستوردة للنفط الإيراني، ويتعلق الأمر بكل من الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا وتيوان وإيطاليا واليونان لمدة 6 أشهر لمواصلة شراء الخام من طهران، مما سيسمح ببقاء على الأقل لـ 1مليون برميل من النفط الإيراني يتدفق في الأسواق العالمية في إطار الشرعية والوضوح.
7- تباطؤ الاقتصاد العالمي فمن المتوقع في الوقت الحالي أن يستمر تباطؤ نموالاقتصاد العالمي خاصة مع الضعف الذي تبديه الأسواق الناشئة وضعف عملاتها مقابل الدولار، مما سيقلل من الطلب على النفط.
8- الحرب التجارية المشتعلة والمستمرة بين أكبر الإقتصادات العالمية.
9- التوسع في استعمال الغاز الطبيعي مما سيقلل من فرص النفط للتمدد في ساحة الطلب العالمي على الموارد الطاقوية.
10- العامل النفسي للأسواق، إذا لم تتجاوز الأسواق النفطية تأثيرات الصدمات المتتالية، مما زاد من حدة مزاجية الأسواق الخام، فأصبحت غير قادرة على التماسك لفترة أطول وبقيت تتميز بالهشاشة.
منذ 3 أكتوبر النفط يخسر نصف دولار/ يوم
وما هوالمسعى المطلوب لتصحيح الوضع القائم؟
وبعد استعراضنا للأسباب وقراءة الوضع، يمكن القول أن المسعى المطلوب يتمثل في العمل على تصحيح الدورة بعد انفجار الفقاعة السعرية، كما لوأننا أمام دالة موجية بلغت ذروة الصعود عند حدود 86.29 دولارا للبرميل، ففي مدة 42 يوميا أي في الفترة الممتدة من 3 أكتوبر إلى غاية يوم 14 نوفمبر انخفضت الأسعار بأزيد من21 دولارا، أي من 86.29 دولارا إلى مستوى 65.01 دولارا، ويعد معدلا كبيرا تعدى فقدان النصف دولار كل يوم كمتوسط عام ويعد هبوطا قياسيا، لكن نأمل أن يستهدف مسعى التصحيح التقليل من مدى وشدة الدورات، كأن تكون في حدود 10 دولارات فقط حتى يبقى سعر برميل النفط يهتز حول 75 دولارا للبرميل، وكلما قللنا من السقف المستهدف بسعر البرميل، كأن يكون مثلا 80 دولارا، وتكون الذروة السفلى 70 دولارا، بدل أن تكون 65 دولارا، لذلك نجد أن ما تم التوافق عليه في اجتماع أبوظبي الأخير من طرف لجنة المتابعة، يتطلب ضرورة مباشرة مسعى التصحيح بين أوبك وشركائها، من خلال إقرار خفض إضافي للإنتاج بدءا من السنة المقبلة في حدود 1 مليون برميل من مستوى شهر أكتوبر الماضي، بهدف إعادة التوازن للأسواق من جديد وخاصة أن التوقعات الاقتصادية لسنة 2019، تشير إلى وجود نمو أعلى في العرض وضعف في الطلب العالمي على النفط، كما أعلنت العربية السعودية لتعزيز هذا المنحى أنها تبادر بخفض صادراتها من النفط بمقدار 500 ألف برميل يوميا خلال شهر نوفمبر الجاري وشهر ديسمبر الداخل. وعلى هذا الأساس يجب التنويه بأداء منظمة أوبك وشركائها، على خلفية نجاحها فعلا في إقرار آلية مراقبة تسمح لها بالتدخل للموازنة سواء، من خلال المزيد من خفض الإنتاج أوبزيادته عند الضرورة لدعم استقرار الأسعار، ضمن نطاق السعر المقبول والمتوازن والمستدام، والذي يراهن عليه، اليوم أنه نطاق 70 دولارا إلى 80 دولارا للبرميل.
«سوناطراك» أمام رهان الصناعات الرقمية
ما المطلوب من الجزائر في إطار تحركاتها للخروج من تحديات تذبذب الأسعار؟
من الضروري التوجه إلى صناعة نفطية منخفضة التكاليف لأن «تحسين» السلاسل في الصناعة النفطية، من خلال الرفع من قدرات الاسترجاع والحد من الهدر والضياع، وجلب تكنولوجيات عالية ورفيعة ومتقدمة مما سيقلل من التكاليف في مختلف مراحل الإنتاج، لأن هذا سيؤدي حتما إلى توسيع هامش الأرباح لشركة «سونطراك» وشركاءها في الحقول الجزائرية، مهما كان سعر برميل النفط منخفضا. علما أن الرهان اليوم عالمي وليس على أسعار مرتفعة جدا، ويتمثل في الواقع في الرهان على هامش ربح مرتفع من خلال خفض كلفة الإنتاج، ويجب على «سونطراك» كذلك التحول إلى الإنتاج من خلال الفضاء الرقمي «الصناعات النفطية الرقمية»، فالتطورات على الصعيد العالمي اليوم خاصة في مجال التحول الرقمي، أدى إلى نشر العديد من التقنيات الجديدة على مستوى الصناعات النفطية عبر مختلف السلاسل القيمة، فهي تشمل مثلا استخدام طائرات بدون طيار لفحص المنشآت النائية لأنه في كل الشركات المتطورة تستعمل الطائرات بدون طيار، وبالتالي التقليل من المخاطر وتحقيق أعلى درجات الصحة والسلامة في المنشآت النفطية واستعمال الروبوتات، لإجراء الفحوصات الدورية للمنشآت خاصة في الأماكن التي تكون فيها المخاطر مرتفعة على الإنسان، إلى جانب استعمال الواقع الافتراضي لمحاكاة حفر الآبار ومتابعتها والتحكم فيها، بهدف تقليص التكاليف، كذلك ينبغي بحكم تواجد الجزائر في الفضاء الإفريقي والجوار الأوروبي، أخذ جملة معطيات تعتبر مزايا لكنها تشكل كذلك تحديات بالنسبة لنا ويتعلق الأمر:
1- تعتبر إفريقيا حاليا المنطقة الأسرع نموا في العالم، كما يزداد عدد سكانها أعلى من المعدل العالمي بكثير، وكذلك المناطق الحضارية في إفريقيا، مما يستدعي المزيد من الصناعات الطاقوية لتلبية طلب القارة السمراء.
2- من المتوقع أن يزداد الطلب الإجمالي على الطاقة بنسبة 60 بالمائة بحلول عام 2030، كما ستزداد الحاجة إلى الوقود السائل في العديد من البلدان الإفريقية، بما يزيد عن 3.4 مليار برميل يوميا لتلبية إحتياجات السكان في مجال النقل بحلول عام 2030.
3- ينتظر أن تستمر الهدروكربونات في لعب دور رئيسي في مزيج الطاقة بإفريقيا لاستيفاء حاجاتها المتنامية من الطاقة.
4- ستنمو أهمية شركات النفط الوطنية في الفضاء الإفريقي، ويتعاظم دورها كفاعلين أساسيين في بنية التطوير والتنمية في بلدانها، وهذا ما يحتم على «سونطراك» كمغذي أساسي لاقتصادنا الوطني أن تتوجه للتحول إلى أحد الفاعلين الرئيسيين في الساحة الطاقوية الافريقية وكذلك العالمية. ولعل طموح مجمع «سونطراك» للتموقع كواحدة من الشركات الوطنية ضمن العمالقة الخمسة في العالم خلال العشرية المقبلة، يعد أحد الأهداف الإستراتجية، إلى جانب التحول نحوالصناعات البتروكيماوية، يتمثل في واحد من الدوافع المهمة لتثمين مخزوننا من المواد الهدروكربونية، ومن ثم المساهمة في تحقيق مخطط التنويع الاقتصادي من خلال تغذية اقتصادنا بمنتجات ومواد مصنعة ذات قيمة مضافة عالية، وأحسن مثال على ذلك نذكر مشروع «البوليستير» العالي الجودة بطاقة سنوية تبلغ 550 ألف طن سنوي بأرزيو، وبالإضافة إلى مشروع ثان للاستثمارات الخارجية بتركيا بطاقة 540 ألف طن سنوي. إلى جانب التوجه نحو تثمين غازنا الطبيعي عن طريق الوصول إلى ضخ نصف كمياتنا المنتجة في السوق الوطنية، وعلى وجه الخصوص في السلاسل الصناعية لنصل من خلال ذلك إلى إعادة تثمين وتسويق غازنا الطبيعي على شكل مواد مصنعة تدر على الخزينة الوطنية موارد مالية قد تصل إلى 10 أضعاف من استمرار بيع الغاز الطبيعي على شكل خام. لذلك أعتقد أنه من خلال هذا المنظور الراقي والمبتكر، يمكن تجاوز إشكالية تراجع أسعار برميل النفط، وهذا يعد المنظور الذي أدافع عنه وبإمكانه تجسيد عدم ارتباط الاقتصاد الوطني بأسعار برميل النفط وليس عدم الارتباط بالمحروقات، لأنه من خلال الصناعات البتروكيمياوية ومن خلال توفير المورد الطاقوي لصالح الفلاحة والصناعات الغذائية والشبكات الصناعية والنقل لتطوير السياحة، ستكون المحروقات مغذيا أساسيا لمنظور تنويع الاقتصاد. ومن هذا المنطلق أدعو جميع المعنيين إلى ضرورة فحص مضامين «فك ارتباط الاقتصاد الوطني بالمحروقات»، وبالتالي الذهاب إلى المدلولات السليمة بعيدا عن التصورات المحلية والمغلقة والتي لا تضيف شيئا للاقتصاد الوطني.
متوسط سعر البرميل سيستقر في حدود 73 دولارا
ما هوالمنتظر من اجتماع دول «أوبك» وشركائها شهر ديسمبر المقبل.. وهل هناك فرصة لصياغة قرار يكرّس استقرار السوق النفطية؟
تتجه الأنظار في الوقت الراهن إلى ما سيكشف عليه الاجتماع الوزاري الرسمي للدول الأعضاء في منظمة «أوبك» وشركائها من المنتجين المستقلين، والذي من المقرر أن يعقد في فيينا أوائل شهر ديسمبر المقبل، بهدف التعرف على آفاق التعاون بين «أوبك» وشركائها خاصة فيما يتعلق بعام 2019، لكنه من المرجح أن تكون السوق النفطية ذات الأولوية، وبحث مقترح خوض الإنتاج من جديد في جدود 1مليون برميل يوميا، ولعل هذا القرار صار في حكم المؤكد بحكم مباشرة العربية السعودية، منذ بداية شهر نوفمبر، لتخفيض أحادي الجانب بقدرة 500ألف برميل يوميا وهذا من شأنه تسهيل المهمة على بقية الأعضاء.
بالموازاة مع ذلك ينتظر بحث مشروع رؤية إستراتجية للتعاون البعيد المدى والذي سيطور إطار التوافق الحالي إلى إطار رسمي للتعاون واللقاءات الدورية والالتزامات المشتركة، وهذا استمرارا في روح الرؤية التي تم التوافق عليها في لقاء الجزائر الأخير.
ما هي توقعاتكم لأسعار برميل النفط بعد التراجع المحسوس المسجل؟
بالنسبة لمتوسط أسعار برميل النفط، مازالت أبقي على نفس التوقعات المتمثلة في استقراره في متوسط 73 دولارا للبرميل في عام 2019