طباعة هذه الصفحة

البعد عن مواطن الذل

التّربية على العزّة رفعة إلى معالي الأخلاق ومحاسنِها

العزّة هي الرفعة والبعد عن مواطن الذل والمهانة، فالله يأمرنا أن نكون أعزّاء، لا نذل ولا نخضع لأحد من البشر، والخضوع إنما يكون لله وحده، فالمسلم يعتز بدينه وربه، ويطلب العزة في رضا الله – سبحانه - يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كنّا أذلاء، فأعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. والعزة التي أتحدث عنها: هي حالة نفسية تصاحبها قوة معنوية، وتنبثق منهما أقوال وأفعال تدل على الشعور بالفخر والاستعلاء والاستقلال عن الكافرين، وصدق الانتماء لهذا الدين مع تواضعٍ ورحمة بالمؤمنين.
والغاية منها: الرفعةُ بلا تكبر، وهي نابعةٌ من الخيرية التي يَنتجُ عنها الخيرُ للبشر من مناصرة للفضيلة ومقارعة للرذيلة واحترام للمثل العليا. والعزة ليستْ تكبرًا أو تفاخرًا، وليست بغيًا أو عدوانًا، وليست هضمًا لحقٍ أو ظلمًا لإنسانٍ، وإنما هي الحفاظُ على الكرامة والصيانة لما يجبُ أنْ يُصانَ، ولذلك لا تتعارضُ العزة مع الرحمة، بل لعلَّ خيرَ الأعزاء هو من يكون خيرَ الرحماء، وهذا يذكرنا بأنَّ القرآنَ الكريم قد كرَّرَ قوله عن رب العزة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تسعَ مرات في سورة الشعراء، ثمَّ ذكرَ في كلٍّ من سورة يس والسجدة والدخان وصفَيْ: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} مرة واحدة.
والعزة نوعان: -عزة ممدوحة. -عزة مذمومة.
فالعزة الممدوحة هي التي لله ولرسوله وللمؤمنين، فهي عزة حقيقية دائمة؛ لأنها من الله وبالله الذي لا يُغالَبُ ولا يُقاوَم سبحانه {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
- أما العزةُ المذمومة فهي التي يتخذها الكافرون، قال تعالى: {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}.ص: 2وهذا وإنْ كان ظاهرُه العزة؛ ولكنْ في باطنه الذلةُ والعذابُ، ويرجعُ الأمر في حقيقته إلى الذلة المذمومة، قال سبحانه حكايةً عن حال الكافرين {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} مريم: 81-82. وقال تعالى {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ} الدخان: 49 ومعناه: ذق بما كنت تَعُدُّ نفسك في أهل العز والكرم، كما قال تعالى في نقيضه: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} المرسلات: 43، وقد نزلت الآية الأولى.. في أبي جهل كما قال الزجاج وكان يقول: أنا أعزُّ أهل الوادي وأمنعُهم، فكان ردُّ الله سبحانه وتعالى، ذقْ هذا العذابَ إنك أنت القائل أنا العزيز الكريم.. ومفهومُ العزة يختلفُ باختلاف العقيدةِ التي يحملُها الشخص، فيوجدُ هناك المفهومُ الخاطئُ للعزة، والمفهومُ الصحيحُ لها.
فالمفهومُ الخاطئ: هو الذي تحدثتْ عنه الآية المباركةُ حكايةً عن المنافقين في صدر الإسلام والذي يحمله كثيرٌ من الناس، حتى في زماننا الحالي، وهو أنَّ العزة تتمثلُ في كثرة الأموال والأولاد والعشيرة، والجاه والسيطرة على الآخرين والقوة والبطش بهم والاستيلاء عليهم وقهرِهم، حتى وإن كان ظلمًا وعدوانًا.
أما المفهوم الصحيح للعزة فهو المفهوم الذي تحدث عنه القرآنُ والسنةُ النبوية. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}. وهذه الآية نزلتْ في مقابلة قول المنافقين: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، يريدون أنهم الأعزُّ، وأنَّ رسولَ الله والمؤمنين الأذلون، فبيَّن اللهُ تعالى أنه لا عزةَ لهم، فضلا عن أنْ يكونوا هم الأعزين، وأنَّ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. ومقتضى قول المنافقين أنَّ الرسولَ « صلى الله عليه وسلم» والمؤمنين هم الذين يخرجون المنافقين، لأنهم أهلُ العزة، والمنافقين أهلُ الذلة، ولهذا كانوا يحسَبون كلَّ صيحةٍ عليهم، وذلك لذلهم وهلعهم، وكانوا إذا لقوا الذين آمنوا، قالوا: آمنا، خوفًا وجبنًا، وإذا خلوْا إلى شياطينهم، قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزئون! وهذا غايةُ الذل. أما المؤمنون، فكانوا أعزاءَ بدينهم، قال الله عنهم في مجادلة أهل الكتاب: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، فيعلنونها صريحة، لا يخافون في الله لومةَ لائم. وبمقتضى العزة الممدوحة يجب على المسلم أن يعتزّ بدينه ويرتفع بنفسه عن مواضع المهانة، فلا يُريق ماءَ وجهه ولا يَبذُلُ عِرضَه فيما يُدنسه، فيبقى موفورَ الكرامة مرتاحَ الضمير مرفوعَ الرأس شامخَ العرين سالمًا من ألم الهوان متحررًا من رقِّ الأهواء ومن ذلِّ الطمع، لا يسيرُ إلا وفقَ ما يُمليه عليه إيمانُه والحقُّ الذي يحمله ويدعو إليه، يقول أحدُ الصالحين: ثلاثة من أعمال المراقبة: إيثارُ ما أنزل اللهُ، وتعظيمُ ما عظّم اللهُ، وتصغيرُ ما صغّر الله. قال: وثلاثةٌ من أعلام الاعتزاز بالله: التكاثرُ بالحكمة وليس بالعشيرة، والاستعانةُ بالله وليس بالمخلوقين، والتذللُ لأهلِ الدين في الله وليس لأبناء الدنيا.
إنَّ التربية على العزة أمرٌ بالغُ الأهمية؛ لأنَّها تربيةٌ على معالي الأخلاق ومحاسنِها، لاسيما أنَّ هذه الأهميةَ تزداد في هذه الأزمنةِ التي تَعجُّ بالفِتن والمِحن، حتى أصبحَ الذلُّ والخورُ والهوانُ يَدبُّ في الفرد قبلَ الأمة، وما ذلك إلا لأنَّ الأمةَ ابتعدت عن كتابِ ربها، وسنةِ نبيها «صلى الله عليه وسلم»، والنهلِ من معينهما.
ومن عجب أنَّ الله يريدُ لهذه الأمةِ العزة والرفعةَ، ثم هي تريدُ الذلَّ والهوانَ والصَغار، لقد أراد اللهُ لأمة محمد «صلى الله عليه وسلم» أنْ تكونَ عزيزةً لأنه تعالى أراد لها أنْ تبنيَ الأرضَ وتعمرَها بالخير، ومن المعلوم أنه لا يبني الأرضَ ذليلٌ وإنما يبنيها القويُّ العزيز.
والإسلام لا يأمرُ المؤمنين بالعبادات والأخلاق أمرا قانونيا جافا، أو يعللها لهم تعليلا عقليا باردا، وإنما يربيهم عليها تربيةً أخلاقية خاصة؛ فنرى القرآنَ يبينُ جلالَ العبادةِ أو الفعل الأخلاقي من صلاة وصوم، أو صدق أو بر، عقلا ويكررُ الحديث عنه في مواضعَ متعددة، بإظهار محاسنه أو أمرٍ به، أو ثناءٍ على أصحابه، فينغرسُ حبُّه في القلب، وتتوجهُ له النفسُ لتؤديَه، وكذلك يبينُ ربُّنا تبارك وتعالى سيئاتِ الشر ويكررُ الحديث عنه بينَ بيانٍ لفساده أو استنكارٍ لفعله، أو ذمٍّ لصاحبه. وبذلك يتحسسُ المرء جمالَ الخير ويميلُ إليه، ويتحسسُ قبحَ الشر عقلا وقلبا فيأنفُ منه.
فكان مِنَ المهمات التي تتحتمُ على الأمة الإسلامية بأسرها أنْ تتربى على معاني العزة، وأنْ تحيي هذه الخَصلة في نفوسِ أبنائها، ولنْ يستطيعَ فعلَ ذلك إلا الغيورون على دينهم.