يختتم اليوم برنامج العروض السينمائية التي تأتي تكريما للفنان السويدي العالمي إنغمار برغمان في مئويته.. هذا الأسبوع التكريمي، الذي نظمته سفارة السويد بالجزائر واحتضنته قاعتا ابن زيدون برياض الفتح ومتحف السينما (سينماتيك) الجزائر العاصمة بمعدل عرضين يوميا، اقترح أفلاما لبرغمان إلى جانب وثائقيين يصوران جانبا من حياة السينمائي الفذ. وفي بهو سينماتيك الجزائر أيضا، وقفت «الشعب» على معرض بسيط أقيم هناك يلخص جلّ أعمال برغمان بين السينما والسيناريو والمسرح.
بمجرد أن تدخل سينماتيك الجزائر، تقابلك على الحائط الأيمن ملصقة رائعة «معركة الجزائر».. نموذج نادر يعتبر الأول قبل اعتماد ملصقات الفيلم الأخرى. تنزل الدرج، فتجد على يمينك، دائما، لوحات تشكل معرضا بسيطا يلخص مسيرة إبداعية لواحد من أكبر فناني العالم في العصر الحديث. لوحات لا تحمل فيلموغرافيا برغمان فقط، بل أعماله الكتابية والمسرحية، مرتبة ترتيبا كرونولوجيا من 1937 إلى 2004، تعلوها أهم محطاته الحياتية من ميلاده سنة 1918 إلى وفاته في 2007.
وجدنا شابا يحاول فك رموز هذه اللوحات المعروضة.. اسمه أحمد عصام عرباوي، قدم من تيسمسيلت وهو طالب سنة أولى «علوم المادة» بجامعة باب الزوار، اقتربنا منه وسألناه عن سبب مجيئه إلى السينماتيك فأجاب: «أتيت لكي أكتشف.. أنا مهتم بالمسرح والسينما.. لم أشاهد أفلام برغمان بل ولم أسمع به من قبل.. هي فرصة لكي أعرف من هو وربما أُعجب بأعماله». عرفنا فيما بعد أن اهتمام أحمد عصام بالفن ليس نابعا من فراغ، خاصة وأنه عازف على آلتين موسيقيتين وعضو فرقة موسيقية بمسقط رأسه تيسمسيلت، تخصصت في الموسيقى الأندلسية وبالضبط مدرسة «القليعة»، وكان آخر إنتاجاتها نوبة رمل. بعد أن تعرف هذا الشاب على برغمان لأول مرة، تركناه يكتشف الملصقات الجميلة لخيرة الأفلام الجزائرية، التي توشّح جدران السينماتيك. تشير الساعة إلى الثانية زوالا، موعد عرض أحد أجمل أفلام برغمان وأشهرها.
الموت ذو العباءة السوداء
«الختم السابع» (1957، 96 دقيقة) قصة قروسطية، في بلاد تعاني ويلات الطاعون، ولفهم رمزية العنوان يجب العودة إلى السفر المعروف بـ»رؤيا يوحنا» في «العهد الجديد». يبدأ الفيلم، الذي يقترب من التراجيديا المسرحية، بفارس ورفيقه يعودان إلى البلاد بعد غياب دام 10 أعوام. وفيما يلعب الفارس وحيدا الشطرنج على شاطئ البحر، يقترب منه الموت، في عباءة سوداء طويلة، ويخبره أنه قدم ليقبض روحه، ولكن الفارس يسأله إن كان يجيد لعب الشطرنج ويراهنه على أن يلعبا بشرط أن يفلت من الموت إن هو ربح. ونشير هنا إلى أن مشهد الفارس وهو يلاعب الموت لعبة الشطرنج هو من أشهر المشاهد في السينما وواحد من أكثرها رمزية واقتباسا.
يقول الكاتب الفلسطيني سليم البيك إن برغمان، في مقابلة أجريت معه عن الفيلم، سئل عن سبب تجسيد الموت، فأجاب بأن المشاهد إن لم يرَ الموتَ فلن يصدّق ما يحصل أمامه. من أجل ذلك صوّر الموتَ وليس آثاره، وجعله شخصية في الفيلم تتحدث وتتحرّك وأخيرا تقود الآخرين إلى حتفهم.
ويضيف البيك: «وبخصوص هذا المشهد، وهو الأخير في الفيلم، وفيه واحدة من اللقطات الأبرز فيه وفي عموم السينما العالمية، وهي اللحظة التي يسوق فيها الموت الآخرين إلى حتفهم، فقد صوره برغمان ــ الذي عانى من تضييقات مالية أساساً فبقي سيناريو الفيلم لسنين في أدراجه ــ حين رأى السماء ملبّدة بالغيوم، في آخر النهار، وقد انصرف العاملون والممثلون من موقع التصوير، فخطرت له الصورة: الموت يسوق الشخصيات الأخرى إلى الموت، وهي تكملة لأحداث سابقة وأخيرة في الفيلم. لم يرد بيرغمان للصورة أن تفوته، فاستدعى من تبقى من العاملين، مع مارّين غرباء، ألبسهم ثياب المساقين إلى حتفهم، ورقصوا كما يمكن أن يفعل المُساق إلى حتفه دون أن يعرفوا ما يفعلونه ولمَ، وصوّرهم بلقطات بعيدة بحيث لا تُرى ملامحهم، لتُعرض لثوان فقط في نهايات الفيلم وتكون إحدى أبرز لقطاته».
مخرج يستنطق التجربة ويتحاشى التكلف
من جانبه، يرى المؤلف والناشط الثقافي يوسف بعلوج، بأن «الختم السابع» هو عن «تراجع التدين كحالة فردية في مقابل تصاعد نفوذ المؤسسة الكنسية كطرف مسيطر على جميع مفاصل الحياة». ويضيف بأن «برغمان يطرح في هذا الفيلم البديع عبر حوارات مركبة وطريفة وشاعرية، أزمة تسليع الإيمان وتحويله إلى مسوغ للقتل أو التحريض عليه».
كما يحدثنا يوسف بعلوج عن سينما برغمان بشكل عام، يقول: «أظن أن سينما برغمان عموما لصيقة بيومياته وتستلهم كثيرا من مساره المسرحي. أعماله ترتكز على مشاهد طويلة وتصعيد الصراعات وبناء العلاقات عن طريق تبادل حواري عميق مكتوب بلغة شاعرية وفلسفية. يكفي أن نذكر أنه كتب فيلم «بارسونا» أثناء رحلة مقاومة لمرض أصابه. يكاد يظهر هذا التطهر في كل مشهد يستنطق ميراث تجربة شخصية قاسية».
ويضيف بعلوج بأن برغمان «لا يتكلف في الجانب التقني، بل يستخدم ما يحتاجه فقط، وهذا ما يجعل محبيه من النوعية التي تنتصر للقصة والتعقيدات الإنسانية المصاحبة لها أكثر من اهتمامها بالإبهار البصري».
ولمن فاتته مشاهدة هذا الفيلم الأربعاء الماضي، فإن «الختم السابع» سيعاد عرضه بالسينماتيك اليوم في آخر عروض مئوية برغمان، التي تضمنت أعمالا على غرار «صرخات وهمسات»، «الفرولة البرية»، «عبر المرآة»، «بيرسونا»، «سوناتا الخريف»، «فاني وألكسندر»، وآخر أعماله «ساراباند».