طباعة هذه الصفحة

شياطين الجوف لسميرة منصوري

أزمة الجنس السّردي بين أمنية الكاتب وهوية النص

بقلم / د محمد لمين بحري

 

 - أولاً - العنونة الرّوائية للغلاف والهوية القصصية للنص

رغم أنّ الكاتبة قد وضعت على الغلاف الخارجي لنصها كلمة رواية، (وهذا ما يقوم به عادة أي كاتب شاب يرغب في كتابة رواية، فيظن أن كل ما سيكتبه سيدخل حتماً ضمن هذا الجنس السردي)، دون أن تتسلّح من الناحية الفنية بمقومات بناء جنس الرواية الذي ترغب في كتابته، فقدّمت للقارئ عملا قصصياً. ينتمي من حيث البناء إلى القصة القصيرة، ويمكن للقارئ المتمرّس على قراءة النصوص الروائية والقصصية أن يكتشف بسهولة الانتماء القصصي للنص، واختلافه الجذري عن البناء الروائي. على الرغم من أن كاتبة النص تنوي وتظن أنها بصدد رواية حين كتبت هذه الكلمة على الغلاف الخارجي لنصها، ممّا جعلها توجّه خطاب الغلاف مناقضا لتوجه النص من الناحية البنائية والفنية، وعادة ما ينتج هذا الاختلال الفني عن عدم مراجعة النص فنياً قبل النشر.
بعدد صفحات لا يزيد عن الاثنين والتسعين، تحيك الكاتبة سميرة منصوري قصة مراهقاتية، تستوحي مقومات العنف والمأساوية من مصدرين رئيسين:
-الأول: لعبة الأقدار التي ابتلت البطلة (سميرة / الكاتبة / الراوية)، بطيش ومجون الأب ثم فقدانه (غياب دون رجعة)، ومرض وجنون الأم بسببه ثم فقدانها (موتها شريدة)، بهاء الفتاة وطاقتها الأنثوية ثم فقدانها (بمرض الإيدز).
الثاني: تقلّبات المجتمع الجزائري الراهن، الذي ينتج طلبة جامعيين، تصنع مآسيهم وأمراضهم النفسية علاقاتهم الهشة واقعياً وافتراضيا.
 - ثانياً - أحادية محور التشخيص
تتمحور العقدة الوحيدة للسرد في هذه الرواية على مركز وحيد للتشخيص هو البطلة سميرة التي تدول حولها توليفة من الشخصيات، الثانوية:
1 - شريفة صديقة البطلة الراوية سميرة في الدراسة والحياة.
2 - إياد، زوج شريفة وخائنها مع سميرة.
3 - رؤوف عشيق نبيلة منافسة سميرة في الثانوية.
4 - أم سميرة المرأة العصابية.
5 - أب سميرة الغائب عن بيته وزوجته وابنته.
6 - أستاذها في الجامعة (مغتصبها الأول).
7 - عشيقها الافتراضي (مموّل مشروعها التصميمي).
8 - رجل الأعمال (شريكها في العمل والفراش).
لتتقاطع جميع إشكالات هذه الشخصيات الدائرة حول الشخصية الإشكالية في هذه المغامرة (البطلة سميرة)، مفضية إلى عقدة كبرى، ترقى لأن تكون محنة للسرد، يمكنها إيقاف الحكاية في كل لحظة. وذلك عند انسداد الأفق بإصابة البطلة بمرض الإيدز نتيجة علاقاتها الجنسية المشبوهة، وعقدها العزم على تلويث ونقل العدوى لكل الطامحين في الحياة لتخرج شياطينها من جوفها لتدمير محيطها ولكن البطلة تتآكل في الوقت ذاته، صانعة من خلال خلق مأساة غيرها، مأساتها الذاتية لتنفجر في وجهها كل تلك اللعنات في النهاية التي تطلب فيها العفو بعد فوات الأوان.
الهوية القصصية للنص (أحادية المحور ومركزية السرد)
لم يكن عدد الصفحات في يوم من الأيام هو الفارق أو المعيار بين الكتابة القصصية والكتابة الروائية، حتى إن قل عدد صفحات الرواية عن الـ 100 فتبقى من حيث البناء الفني رواية من حيث الهوية، وإن زاد عدد صفحات القصة على الـ 1000 ستبقى قصة بالنظر إلى هيكلها الفقري الذي يحدد جنسها، تماما كما تتحدد الكائنات ببنياتها وهياكلها لتتصنف ضمن أجناسها وفئاتها  التي تحدد هويتها ووجودها الوظيفي في الكون.
فالنص بنيوياً يقوم على أحادية العقدة، (النزعة الشيطانية التي تسكن جوف البطلة - سميرة، الناتجة عن عقدة نقص رافقت طفولتها). هذه العقدة التي تستمر في تطوير نفسها من فصل لآخر دون أن تتغير أو تتعدد، بل تجعل منها الكاتبة عقدة محورية تصنع بداية المغامرة ونهايتها وبالوعة تصب فيها جميع أحداث النص وضحاياه، (أي عقدة ثابتة، وهي أولى معايير فن القصة). أما المتغير الوحيد، في النص هو ضحايا هذه البطلة، وهم بالترتيب (غريمتها ومنافستها في الثانوية، نبيلة، وعشيقها حين خربت علاقتها، حين خطفته منها ثم رفضته، ثم قامت بالشيء نفسه مع مع ضحيتها الثانية: صديقتها الوحيدة شريفة صاحبة الفضل عليها، حين خطفت عشيقها، ولم يكن من مبرر منطقي في ذلك حسب قول البطلة سوى: (لم يتغير شعوري بالنقص أمام شريفة ولا حقدي لما تملكه ولا أملكه) (ص 40)، وهو ما يمكن تفسيره بالحقد الناجم عن الغيرة. لتسقط هي (البطلة سميرة) ضحية أستاذها بالجامعة الذي اغتصبها ومضى الى حال سبيله، وبعد حادثة اغتصابها تضبطها صديقتها الوحيدة شريفة في حضن خطيبها إياد، وتتدمر جميع علاقات البطلة الشيطانية سميرة، التي تتحول إلى مرأة أعمال سخية بجسدها على الرجال فتعاشر رجل أعمال أربعيني يلقب بـ (دون جوان)، ثم فتى عشرينيا (اصطادته من أحد الملاهي) وهو ابن السفير الذي انتحر حين اكتشف إصابته بمرض الإيدز الذي كانت تحمله البطلة وتلوث به العالم، وتختتم الرواية بتمددها على سرير الموت مستذكرة حياتها كجرثومة دنست كل من حولها.
 فرغم تعدد الضحايا، وتعدد فصول النص (عشرة فصول قصيرة)، فإن العقدة لا تتعدد العقدة، وبقيت ثابته كأنما تحاول تأكيد فكرة وحيدة، ومشكلة مركزية. لكن لو تعددت عقد السرد مع كل فصل لتقاطعت عقد الفصول تلقائياً، وانفتحت حبكة الأحداث على عمل روائي مشوق. لكن العقدة لم تغير من لونها الوحيد، ولم تسمح بولادة عقدة أخرى غيرها، فراحت تتأكد من فصل لآخر راسمة دائرة مغلقة حول البطلة، مما لم يسمح للأحداث بالانفتاح ولا للسرد بالتطور، ولو حدث ذلك لغطى نوعاً ما عن ضعف وسذاجة وبساطة العقدة (عقدة النقص التي تفضي إلى انتقام عشوائي - غير مبرر فنياً - من أقرب الناس وأبعدهم). وبهذه الوجهة الوحيدة والمركزية لن يصبح هذا النص روائياً ولو ضم إلى عالمه آلاف الضحايا لأنّهم سيكونون بصورة آلية ضحايا لنفس الفكرة والعقدة والشخصية التي سيعلم القارئ من أولى الصفحات أنها الضحية الأولى والأخيرة، ممّا ألغى غائية ورمزية تقنية التعقيد في هذا النص من الأساس.
والأصل في البناء الروائي أنه متعدد العقد (عكس أحادية العقدة في القصة التي تنبني حولها بداية ونهاية الأحداث في النص)، ما يؤدي بصورة آلية إلى صناعة حبكة نوعية تحمل بصمة شخصية مع كل نص، حينما تتقاطع العقد، وتتوزع ثم تتوحد على طريقتها بنهاية مفتوحة أو مغلقة أو معلقة. وهذا ما لم يحدث في هذا النص القصصي المنسجم في أحادية عقدته وحبكته ومشكلة بطله.
ورغم قلة الأخطاء اللغوية ورصانة الأسلوب ووضوح وظائف الشخصيات، فإن القارئ سيقف عند عدة إشكالية فنية أخرى أضعفت كثيراً القيمة الفنية للنص، وأضرّت بهويته القصصية أيضاً (هذا إذا احتسبناه من القصص)، وتعد هذه المشكلة الثانية من كبرى السقطات وأكثرها شيوعاً بين القلام الناشئة، التي لا تفرق في نصوصها بين الكاتب والراوي والبطل، ووظائف كل منهم وتموقعه في معادلة السرد والتلقي.

 - ثالثاُ - أزمة الرّاوي
 من يخاطبنا في هذا النص؟ (الكاتب؟ أم الراوي المستقل؟ أم البطل المدمج في الأحداث؟).
ليس مشكلاً ان يعتقد القارئ بأن الكاتب كشخص خارج النص هو من يخاطبه، بل المعضلة أن يعتقد الكاتب ذلك وهو يكتب نصه فيضيع منه حبل السرد وزمامه، وهذه أزمة معرفية وفنية في الوقت ذاته ستنتقل بالعدوى إلى القراء الذين سيطرحون التساؤل السابق الناتج عن إبهام مصدر صوت النص، وأطراف خطابه.
تبدو صعوبة الفصل بين الكاتب والراوي جلية في هذا النص، إذ تحجم الكاتبة عن تحديد هوية الصوت السارد، وذلك حتى الصفحة (81)، أي قبل عشر صفحات من نهاية الرواية، أين يكتشف القارئ أن الصوت الوحيد الذي كان يخاطبه هو اسم الكاتبة نفسها (سميرة) مضمناً في كلمة (سميراميس)، الذي هو كنية الكاتبة المعلن عنها تحت اسمها الأصلي في غلاف الرواية، والذي قالت عنه الساردة، (أولا لأنه يحمل جزءاً من اسمي، وثانياً تيمناً بأسطورة سميراميس) (ص 81).
تتجسد أزمة الراوي حين تتلاشى الحدود بينه بين الكاتب الذي يبدو عاجزاً عن تحديد المسافة بين صوته وصوت السارد، أي بين الكاتب كذات حقيقية خارج النص والراوي داخل النص كجزء من المكونات التخييلية، مما يطمس العالقة الثلاثية بين الكاتب الحقيقي والكاتب الضمني والراوي، ويطمس من جهة التلقي العلاقة المقابلة والضرورية بين هذا الثلاثي والثلاثي الاستقبالي: القارئ الحقيقي (خارج النص) والقارئ الضمني، والمروي له (داخل النص).
وعادة ما يقع الروائيون المبتدئون في هذا اللبس الفني الذي يظن فيه الكاتب أنه هو من يتكلم، في حين أنه يكرس عجزه عن الفصل بين ذاته الواقعية ككاتب والذاوات التخييلية داخل النص من:
1- راوٍ مستقل (يقع خارج الحكاية زيلعب دور الوسيط بين القارئ والشخصيات المتفاعلة داخل النص) أو
2 - راوٍ مدمج (أحد الشخصيات الساردة وعادة ما يكون البطلة نفيه)،
3 - كاتب ضمني يتجه إلى متلقيه الضمني المفترض بأدوات سردية ودوره فصل كل أولئك الرواة بمسافات قد تتفق وقد تختلف وتتناقض مع الموقف الصريحة للكاتب الحقيقي خارج النص.
وتعد إشكالية الراوي من أهم المشكلات الفنية التي تربك الأقلام الناشئة، حين تعجز عن نسج فضاء مخيالي يفصل بين ما يقوله الكاتب في آرائه ومعتقداته خارج النص، وبين ما تقوله الشخصيات باستقلال نسبي، بعيداً أو ضد إرادة كاتبها.
 وهكذا فإن من كان يخاطبنا في هذه الرواية هو صوت حجبت الكاتبة هويته على مدى 80 صفحة وأسفرت عنه، كراوٍ عليم تضطلع بدوره البطلة سميرة (سميرميس)، التي هي ذات تمثيلية الكاتبة وصوتها. ليكون الراوي العليم الذي رافق القارئ حتى هذه الصفحة هو راوي يدمج صوت الكاتبة مع صوت الشخصية البطلة كذات ثانية لها، فيتوحدان صوتاً واسماً أمام القارئ، مما يربك الرؤية السردية، ويوقف عجلة التخييل حين يحيل الصوت السارد إلى الموقف الشخصي وذات الكاتب، وليس إلى الموقف السردي، وذواته المتخيلة في المحكي. ذلك أن خلل التمثيل والإحالة في الرؤية لا يشوشها فحسب، لأن تشويشها يمكن أن يكون عاملاً جمالياً فيحسب على الإيهام بالواقعية، وهو أسلوب سردي رائج في كبرى منجزات الأدب العالمي، بل يخلق عكس ذلك مشكلة في زاوية الرؤية أو المنظور السردي حين يكون ضعف التمثيل في التعبير عن المواقف السردية معطلاً لآلية التخييل. فيبرز أمام القارئ الذات الكاتبة ومواقفها بدل الدوال التمثيلية الحاملة لرؤيتها من شخصيات وذوات ساردة مستقلة بمسافات تخييلية عن ذات كاتبها، وهذا هو الفرق بين حركية السرد المخيالي وانتهاكه، بفعل ضعف التمثيل والتعبير عن الرؤية السردية.