رمز التسامح وأول من وضع لائحة خاصة بمعاملة الأسرى، شرع في تطبيقها سنة 1837 قبل اتفاقية جنيف المتعلقة بأسرى الحرب التي لم تكتمل إلا في عام 1864، سباق للتنظير أو بالأحرى رائد لحوار الأديان والحضارات، رجل أحب السلام فكان مؤسس حقوق الإنسان ، إنه الأمير عبد القادر الجزائري شخصية تميزت بمحاربة التعصب وكرست مبادئ التعايش السلمي، وما إنقاذه للآلاف من مسيحي دمشق سنة 1860 في أحداث بين الدروز ومسيحي الشام لخير دليل على قيمه الإنسانية العالمية.
الكثير منا يعرف عن الأمير عبد القادر الجانب العسكري والديني والفلسفي في مجال التصوف والعلوم، لكنه يجهل جانبه الإنساني تجاه الأسرى المسيحيين وخاصة قصته الشهيرة في إنقاذ آلاف المسيحيين خلال الفتنة الطائفية التي عرفتها الشام سنة 1860، حينما تدخل الأمير عبد القادر بما يملك من سلطة روحية واحترام لدى سكان الشام، وفتح بيوته للاجئين إليها من المسيحيين، كما أرسل برسائل تترجى علماء حمص وحماة لدرء الفتنة والتعقل، حقنا للدماء، مكرسا بذلك مبادئ العيش معا في سلام .
هذا ما أكدته حفيدة الأمير عبد القادر زهور بوطالب، الأمينة العامة وعضو المجلس العلمي لمؤسسة الأمير، لـ "الشعب" ، كاشفة عن الجوانب المميزة لهذا الرجل الرمز، وكيف كان يتعامل مع الأسرى في أوقات الحرب والسلم اقتداء بسيرة نبينا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، بحيث كتب عنه حتى أعدائه وأشادت به العديد من الدول والدبلوماسيين العرب والأوروبيين، فقد أنقذ حوالي 15 ألف مسيحي، ما جعل العالم كله يعترف برجل الإنسانية منهم الملكة فيكتوريا، أبراهم لنكولن، عبد المجيد التركي، البابا، نابليون الثالث، كل السلاطين والقياصرة.
وأضافت:" لما نتحدث عن يوميات حقوق الإنسان، الأمير سبقهم لذلك لأنه كان يتبع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أمه لالا الزهراء كانت تسهر على الأسرى والأسيرات، كان يتمتع بأخلاق ويرد على رسائل كل الناس منهم البسطاء، بحيث يوجد أكثر 45 ألف رسالة موجودة في الأرشيف الفرنسي بأكس بروفانس، منها مراسلته مع الملكة صوفيا التي طلب منها مساعدته حين دخلت فرنسا، والسلطان عبد الرحمان وملوك عرب ". بالمقابل كان فاعلا في تسوية قضية قناة السويس عبر اتصاله الدائم مع الرؤساء والملوك لحل القناة.
تصرف عفوي لكنه بطولي كان له وقع لدى البلدان الأوروبية ، فقد هنأه عدد كبير من رؤساء الدول والقنصليات خاصةً من فرنسا وإنجلترا وروسيا. بحيث قلده نابليون وسام الشرف، وأرسل إليه ألكسندر روسيا صليب النسر الأبيض الكبير، وكتب إليه الأمير الداغستناي شامل المعتقل في كالوغا بتاريخ 1 أوت 1860:" أنا فرح بك، لقد أعدت إحياء كلمة الرسول ووضعت حدا لمن يخون عهوده"، فرد عليه الأمير في نفس السنة:" إن ما فعلناه بحق المسحيين لم يكن سوى ما يمليه الواجب الديني والإنساني".
وكتب الكاردينال دوني:" عبد القادر هو بطل اليوم يظهر صوته في الشرق كصوت للخلاص والإعتراف والإعجاب، وعبر كل أنحاء العالم كعار على بعض الدبلوماسيين الذين يزدرون حضارتنا، فرق بين من يعتدي على أرضك ويجب محاربته ومن يستحق العيش معك فوق أرض واحدة"، لم يكن عبد القادر ، في كفاحه المسلح ضد المسيحية كدين ، بل ضد الاستعمار، ضد انتهاك الأرض الحرة ، ضد إذلال شعب من قبل أشخاص من مكان آخر ، كان عدائه تجاه عدو استعماري أراد فرض سلطته بالقوة.
وأصدر الأمير تعليمة "بالتحريم القطعي لقتل أسير مجرد من السلاح"، ويجب أن يعامل كل جزائري بحوزته أسير فرنسي معاملة حسنة، على أنه في حال شكوى الأسير من سوء المعاملة فإن ذلك سيترتب عنه عقوبات.
هذه الشخصية الفذة استقطبت اهتمام القساوسة أيضا منها قصته مع قس الجزائر الكبير مونسينيور ديبوش، وهو يركض بين غرفة الشعب بباريس وبيته للدفاع عن الأمير السجين بأمبواز، ولا يرتاح إلا عندما يراه يركب سفينة لابرادور متجها إلى القسطنطينية بتركيا، نظرا لما شهده من نبل أخلاق الأمير في التعامل مع الأسرى المسيحيين، وقد كتب في رسالته إلى رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك لويس نابليون بونابرت قائلا:" أعود للتو من قصر أمبواز، قضيت أياما عديدة تحت سقفه المضياف في حميمية نادرة مع ألمع سجين عرفه القصر، أعتقد أنني أكثر معرفة من غيري بعبد القادر وأستطيع اليوم أن أشهد بالحق من يكون هذا الرجل".
ويضيف:" للأسف أثناء عودتي إلى بوردو، صادفت أناسا كثيرين أهلا لكل ثقة، لديهم فكرة غير دقيقة وناقصة عن هذا الرجل مما سيتسبب حتما في تأخير تجلي الحقيقة إلى يوم غير معلوم، وأظن صادقا لو أن كل الفرنسيين عرفوا عبد القادر مثلما أعرفه اليوم، لأنصفوه في أقرب وقت، لهذا أتصور أنه من واجبي الإنساني أن أفعل شيئا في إنتظار القيام بما هو أهم...".
ويعد الأمير عبد القادر الجزائري رائدا سياسيا وعسكريا، قاوم تقدم الجيش الفرنسي 15 عاما أثناء غزوه الجزائر و هو أيضا كاتب وشاعر وفيلسوف، يلقبه الجزائريون بمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، لكونه وضع الأسس التي قامت عليها الدولة من تنظيم إداري وعسكري وسياسي.
فيسك: الأمير شخصية من قلب التاريخ قدم صورة مختلفة عن الإسلام
بعد أربعة أعوام من إستقراره في دمشق حدثت فتنة في الشام عام 1860 لعب الأمير عبد القادر دورا في إخمادها فقد فتح بيوته للاجئين إليه من المسيحيين في دمشق، وهناك مقال كتبته جريدة الأهرام المصرية تتحدث فيه عن تقرير نشرته صحيفة "الأنديبندت" البريطانية لكاتبه روبرت فيسك، يقول فيه أن الأمير عبد القادر شخصية من قلب التاريخ تقدم صورة مختلفة عن الإسلام، وقدم الكاتب عرضا لتاريخ أمير مسلم حارب الإحتلال الفرنسي وشهد أعداءه قبل حلفائه بنزاهته وسماحته، كما وصف الأمير عبد القادر بالنموذج للأمير المسلم والشيخ الصوفي المحارب الشرس، الإنسان الذي حمى شعبه ضد البربرية الغربية وحمى المسيحيين من بعض المتشددين الإسلاميين، وأشار إلى أنه من فرط عظمته أصرت السلطات الجزائرية على إعادة عظامه إلى الجزائر من العاصمة السورية دمشق التي كان منفيا فيها ووافته المنية بها.
ويضيف الكاتب البريطاني أن الأمير عبد القادر حظي بإحترام أعدائه قبل حلفائه بخاصة أنه كان يمنع مقاتليه من تدمير أو حرق أي كتب ، كما أنه كان مؤمنا بحقوق الإنسان بمفرداتها الحالية، وحظي بدعم الفلاسفة الفرنسيين في مواجهة إحتلال بلادهم للجزائر وأبرزهم فكتور هيغو واللورد لندنديري، كما حظي بإحترام لويس نابليون بونابرت.
وقال أيضا روبرت فيسك أنه رغم شن الأمير حرب عصابات على واحدة من أكبر جيوش الغرب تجهيزا وقوة إلا أنه أسس دولة في غرب الجزائر، وظف فيها مستشارين مسيحيين ويهودا وكان يعامل الأسرى الفرنسيين بإنسانية مفرطة، حتى أنه عين كاهنا لهم حتى يتمكنوا من أداء صلواتهم كاملة.
وأضاف:" لكن أبرز مواقفه النبيلة لم تكن في الجزائر، بل كانت في منفاه بدمشق حين نشبت حرب أهلية عام 1860, ووجد السكان المسيحيون أنفسهم محاصرين من قبل مهاجمين الذين كانوا حينها يمارسون أعمالا تشبه تلك التي يمارسها داعش" بحسب الكاتب البريطاني.
في هذا السياق يروي الكاتب البريطاني، كيف قام الأمير عبد القادر بحماية المسيحيين بإلقاءه خطبة يمكن وصفها بأنها أقوى الخطابات التي يمكن مواجهة الفكر الإرهابي والمتطرف، والتي يتجاهلها الإعلام الغربي بصورة كبيرة قال روبرت.
يقول الأمير في خطبته:" هل هذه هي الوسيلة التي تحترمون وتقدسون بها الرسول؟ الله سينتقم منكم ...العار عليكم... العار عليكم، سيأتي اليوم الذي ستدفعون فيه ثمن جرائمكم تلك، أنا لن أسلم لكم ولا مسيحيا واحدا، إنهم إخواني أخرجوا من هنا وإلا أمرت حراسي بالقضاء عليكم".
مدينة "الكادير" بأمريكا تكريما لشاب قاد شعبه لمقاومة المستعمر
عام 1846 قرر تيموثي ديفيس وجون تومسون وسيج تشيستر، الذين أسسوا مدينة صغيرة في مقاطعة كلايتون في ولاية آيوا الأميركية، تسمية مدينتهم " الكادير "، نسبة إلى الفارس الجزائري الأمير عبد القادر، الشاب الذي كان يقود آنذاك شعبه لمقاومة المستعمر الفرنسي، تكريما له وللقيم التي يحملها، وكتبت عنه العديد من الصحف الأميركية مثل "نيويورك تايمز" مقالات صورته فيها بطلا حقيقيا، حتى أن بعض الأميركيين كانوا يلقبونه بجورج واشنطن الجزائر.
من جانبها تقول كاثي غارمز، رئيسة مؤسسة عبد القادر للتربية:" إنه يملك الشجاعة الإنسانية وشروط أخلاقيات القيادة، وأيضا كان مسلما ملتزما ويحترم الديانات الأخرى، وأنماط حياة غيره. باختصار هو بالنسبة لنا مثال يحتذى به في عصرنا الحالي، وأعتقد أن هذا ما ينقصنا في مجتمعنا اليوم، وهو فهم الآخر، ومساعدة الآخر على فهمنا".
وتشتهر مدينة الكادير بكونها تحمل العديد من المعالم، التي ترمز إلى الأمير عبد القادر، منها متحف المدينة "كارتر هاوس ميوزيوم" الذي يحتفظ بتذكارات للأمير عبد القادر، وكذا لوحات فنية وصور، كما تضم المدينة حديقة "معسكر" نسبة إلى المدينة التي ولد فيها الأمير عبد القادر.
أرخيلة:أبعاده الإنسانية دائما حاضرة في حروبه
وصف المحامي والباحث المتخصص في تاريخ الحركة الوطنية عامر أرخيلة، الأمير عبد القادر بالشخصية المتعددة الأبعاد وطني، مناضل، ثوري مقاوم للغزو الاستعماري، ورجل مثقف ثقافة دينية وروحية وتعاونية ومؤسس الدولة الجزائرية، بحيث أن أبعاده الإنسانية كانت دائما حاضرة في حروبه، قائلا في حديث لـ:"الشعب": "رغم الظروف التي جاهد فيها وأن القوات الغازية دموية لا تولي أي عناية لقوانين الحرب وحقوق المدنيين والأسرى، إلا أنه إلتزم بمعاهداته مع المحاربين وعامل الأسرى معاملة جيدة بحكم ثقافته العربية والإسلامية وأخلاقه وإحترامه لإرادة الشعوب".
وأضاف أرخيلة أن الكثير من الأسرى يشهد للأمير عبد القادر حسن المعاملة، فقد كان يطعمهم ويعالجه ولا يغمض له جفن حتى يطمئن على سلامتهم، ، ما جعل الدراسات والكتابات العالمية تبرز إحترامه للديانات وتكريسه لسياسة التعايش السلمي، فمعاملته الخاصة في الحروب أقر بها الغرب قبل العرب، مشيرا إلى أن الأمير عبد القادر حين أدرك إستحالة استمرار المقاومة في ظل عدم تكافؤ القوتين والخيانة الداخلية والخارجية التي تعرض لها ، اثر حماية الجزائريين ووقف إراقة دمائهم، ومغادرة الجزائر.