منظومة رائدة في التّعليم القرآني بمنطقة توات
الاقربيش...لمحضرة...لمسيد...الجامع كلها ترجمة لمعاني الكُتاب بضم حرف الكاف وهو مكان الكتابة، وعند ابن منظور الكُتاب موضع التعليم، وجمعه كتاتيب، وأضاف المبرد رحمه الله أن المُكتبَ المعلم، والكتاب للصبيان، وفي عرف أهل العلم بشؤون القرآن وعلومه: أنه الجزء المخصوص في طرف المسجد أو ناحية منه.
يظهر أن كلمة كُتاب يقابلها في مناطق أخرى كلمات «كالمسيد» في الجزائر العاصمة...وهي مراكز صغيرة نسبيا، غالبا ما تتضمن حجرة أو حجرتين مهمتهما الأساسية تتمثل في تحفيظ و تعليم القرآن الكريم للصبيان، وقد تكون ملحقة بمسجد كبير.
يوجد الكتاب على العموم ضمن أحد المنازل بالحي، أو ملحقا بأحد المساجد، وكان يبنى من طرف شخص احتسابا لمرضاة الله، أو قد يكتريه معلم عن صاحبه ليعلم فيه بأجرة يتقاضاها من أولياء التلاميذ، وفيما يخص تجهيز الكتاب، فعادة ما يجلس التلميذ على حصائر أو على الرمل كفراش يفترشونه خاصة في فصل الصيف.
من الباحثين من يسميه مدرسة اللوحة وهي المدرسة التقليدية، ويلتحق بها التلميذ من سن ثلاث سنوات إلي نحو الرابعة عشرة من عمره، وفيها يتعلم مبادئ القراءة والكتابة و ختم قراءة القرآن الكريم. وتكون مستقرة في المسجد أو بيت المعلم أو تكون متجولة من قرية إلى أخرى، يعسكر فيها التلاميذ خارج القرية وينعزلون فيها عن المجتمع بقصد التركيز في تحصيل العلم.
وتعتبر إحدى مؤسسات التنشئة الاجتماعية في إعداد الناشئة على القيم الاسلامية والعربية لما تحظى به من قبول لدى المجتمع كونها أنها لا تعرف بالسن والجنس والمستوى الدراسي في الانتساب لها، وهي بمثابة مؤسسة ومركز يتلقى فيه الناشئة دروسا في تلاوة وحفظ كتاب الله، وقد لعبت دورا هاما قديما وحديثا في المجتمعات العربية المسلمة من خلال حفاظها على سمات الشخصية الإسلامية.
تاريخ ظهور الكتاتيب في شمال إفريقيا والجزائر
إن هذا النوع من المدارس التعليمية ليس وليـد اليوم أو الأمس القريب في العالم العربي، بل عرف ظهوره مع فجر الإســـلام لعلاقتـــه بالكتابة وتعلمها، واشتق اسم الكتاب من التكتيب، فكــــان الهــــدف الأساسي من الكتاب تعلم القراءة والكتابة فقد قد اشتهر عدد من المعلِّمين في الكتاتيب وذاع صيتهم، منهم: الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان مؤدبًا ومعلمًا للصبيان في الطائف، ويحفّظهم القرآن، وكان ذلك قبل التحاقه بجند عبد الملك بن مروان، وعُرِفَ عن الضحاك بن مزاحم أنه كان مُؤَدِّبًا للصبيان في أحد كتاتيب الكوفة، وكان لديه ثلاثة آلاف صبي، أبي القاسم البلخي، فقد روى ياقوت الحموي في(معجم الأدباء) أن كُتَّاب أبي القاسم البلخي كان به ثلاثة آلاف تلميذ، وكان فسيحًا جدًّا يَتَّسِعُ لهذا العدد، أبو الغنائم المسلم بن الحسين بن الحسن، قال عنه ابن عساكر: «اشتغل بتأديب الصبيان، فحسن أثره في ذلك، وظهر له اسم في إجادة التعليم والحذق بالحساب حتى كثر زبونه».
أما بالمغرب العربي ارتبط التعليم القرآني منذ الفتوحات الإسلامية إلى يومنا هذا، بالمؤسسات التعلمية العتيقة التي أسّسها الفاتحون المسلمون، أمثال عقبة بن نافع وحسان بن النعمان الذين قاموا بإنشاء سلسلة من الرباطات والمساجد لتعليم سكان البربر مبادئ وتعاليم الاسلام، منها رباط ماسة، سيدي شاكر، مسجد القرويين، القيروان...الخ.
أما في منطقة الساحل ساعد في هذا النشاط العلمي قدوم كوكبة من العلماء من مصر والجزائر والمغرب وليبيا وبلاد الشنقيط وافتتاحهم للمدارس و المعاهد وحلقات العلم في بلاد الهوسا مثل هجرة وفد الونغاريين إلى كنو بزعامة الفقية عبد الرحمن زيتي، وهو الجد الأكبر للشيخ أحمد بابا، عالم تمبكتو المعروف. ومن العلماء الذين زاروا شمالي نيجيريا العالم الجليل محمد بن عبد الكريم المغيلي، وقد قامت فكرة المدارس القرآنية في السودان كما يرى يوسف الخليفة أبوبكر، 1974 على الجمع والمزج بين المدرسة الحديثة والخلوة و المسيد، فقد كان (المسيد) في السودان في الماضي مؤسسة تقود حياة المجتمع بهداية القرآن والذكر وبإحياء السنة ونشر التعليم وخدمة المجتمع بالإصلاح بين المتخاصمين واستقبال الوفود وبسط الشورى وتربية الشباب على السلوك القويم، فكان مدرسة لتخريج القادة المجاهدين والعلماء، وكان يؤدي وظيفة المؤسسة التربوية والمؤسسة الاجتماعية الخدمية بمفهومها الحديث.
أما في ليبيا تعود إلى الحكم التركي وقد ورد بها تعداد المدارس والكتاتيب لعام 1861 م، وجد بها خمس وعشرون مدرسة، وفي بنغازي فقد بلغت نسبة الدارسين المسجلين في الكتاتيب تسعمائة وثمانية وثمانين تلميذا المداومون منهم خمسمائة وثمانون تلميذا فقط.
أما الجزائر الحديثة فقد تجذّرت هذه المدارس في قلوب الشعب الجزائري بما تمثله من إرث ثقافي وتاريخي، وما تحمله من معاني الوطنية والتضحية وحافظت هذه المؤسسات التربوية على الهوية الوطنية وأنقذها من المسخ والتشويه، وقاومت ثالوثه الخطير الجهل، الفقر والمرض، فساهمت بذلك في ترسيخ الانتماء والاعتزاز بالدين الإسلامي واللغة العربية. ومن روّاد التعليم القرآني الشيخ ابن باديس، وقال في هذا الشأن: «إن التعليم المسجدي في قسنطينة كان قاصرا على الكبار، ولم يكن للصغار الا الكتاتيب القرآنية، فلما يسر لي الله الانتساب للتعليم سنة 1913 جعلت من حملة دروسي تعليم صغار في الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم من المدرسة».
أما في منطقة توات في الجنوب الجزائري عموما فقد نشأت الكتاتيب والزوايا على يد رجال عرفوا بالعلم والتقوى والصلاح، فتاريخهم يرجع إلى تاريخ نشأة المنطقة التواتية بمناطقها الثلاث (تيدكلت - توات - قورارة)، وهي عبارة عن مجموعة من الأبنية في سائر القصور التواتية، ويطلق عليها أسماء مختلفة كـ (المحضرة) بتوات، (الجامع) بتيديكلت و(الأقربيش) بتينجورارين، وقد لعبت هذه المدارس دورا بارزا في تحفيظ القرآن الكريم وتعليم العلوم الشرعية واللغوية، حسب ما يراه الشيخ المرحوم (محمد باي بلعالم).
بيداغوجيا الأقربيش (الكُتّاب) في التّعليم القرآني في توات
إنّ بداية توقيت الدراسة في الأقربيش أو المحضرة قديما في منطقة توات كانت بحسب مختلف الفصول السنوية ، اما المداومة فكانت يومية ما عدا يوم الخميس وصباح يوم الجمعة وتبدا الدراسة في الكُتاب من بعد صلاة الصبح وتكون هناك فترة استراحة للغداء ثم تستأنف الدراسة إلى وقت صلاة العصر ثم يستأنف الدارسة بها بعد المغرب الى صلاة العشاء، وأن هذا النظام طرأت عليه بعض التعديلات تماشيا مع العصر ومستجداته، أما يوم الخمــــيس فتعتبر عطلة أسبوعيــة، ولا تمنح عطلة سنوية إلا أسبــــوع أو أسبوعين بمناسبـــــة العيدين (الفطر والأضحى) والمولد النبوي، وهذه المناسبة فرصة لقراءة قصائد البصيري والمدائح الخاصة بالسيرة النبويـــــة في بعض الكتاتيب.
أما عن كيفية التعليــم بالكتاتيـــب في المنطقة، فإنها لم تتغير كثيرا عن الماضي فالكُتاب وظيفته الاساسية تحفيظ القـــرآن بعـــــــد القراءة والكتابة، فالكتابة لتعلمها كان يكتــب للتلميذ وشـــما على اللوح بقلم الرصاص أو ما يشبهــه، ليعيد المتعلم على الموشـــوم بالصمغ (الحـــبر التقليدي)، وبعدها ينتقل إلى كتابة الكلمات والجمل، بأن يملأ طبقا من الرمل ليكتب عليه، وينقل التلميذ ذلك في اللـــوح ويشكله، إلى أن ينتقـــــل إلى الفتوى (الإملاء)، بأن يملى عليه المعلم ويكتب ما يسمع ويشكله، وما يملى عــادة هـو القرآن بــــدءا من سورة الفاتحة فسورة النـاس إلى ما أعــــلاها، وفي أسفل كل لوحـــة شيء مــن المتن ويحفظه في نفس الوقت مع القرءان كما يرى الباحث الأستاذ طيب بن زقور.
ففي المرحلة الثانية يتم تقسيم الأطفال إلى مجموعات حسب تأريخ الالتحاق بالكتاب، وحسب القدرة العقلية لكل مجموعة، وغالباً ما تكون المجموعة قريبة من بعضها في السن، ويقوم في البداية بتلقينهم السور الصغيرة من القرآن الكريم ثم يحفظوها ويقوم الفقيه باختيار مساعداً له، وغالباً ما يكون تلميذاً أتم الحفظ وأتقن القراءة والكتابة،حيث يقوم بالاستماع إلى الطلاب الآخرين وتعليمهم الحروف كتابتاً ونطقاً تم ينتقل إلى تجميع بعض الكلمات التي تتكون من ثلاثة إلى أربعة أحرف، والتي تكون متقاربة في الشكل وأثناء مواصلة المعلم تحفيظ الطلاب وهم ينظرون إلى الكلمات في المصحف وأشكالها يتم ترديدها من قبل الطالب، وهو يشير إليها بإصبعه بعد ذلك ينتقل إلى مرحلة الكتابة من المصحف مباشرة.
إضافة الى تلقين الطفل الآيات ليتلوها بشكل صحيح بداية من سورة الفاتحة وقصار السور، بحيث تكون أول سوره يتعلمها هي فاتحه الكتاب تليها سورة الناس ثم الفلق ثم الإخلاص بطريقة رجوع القهقرة في ترتيب السور أضطراديا بحيث تطول السورة كلما تقدم التلميذ في دراسته حتى تكون أخر سورة يتعلمها هي سورة البقرة عند إذن يعتبر خاتماً للقرآن.
القراءة الجماعية في الكتاتيب..منهج رائد في تعليم التّلميذ النّطق الصّحيح للآيات القرآنية والتعلم من أخطائه
ويعتبر منهج القراءة الجماعية ضمن الحلقات الليلية: ضروريا من اجل التكرار والتدريس والاصغاء من اجل الحفظ، وهو منهج رائد في تعليم النطق الصحيح للآيات القرآنية وتصويب مخارج الحروف للتلميذ عن طريق التعلم من أخطائه. وهذه الحلقات تكون عادة بعد صلاة المغرب وبعد الانتهاء من قراءة الحزب اليومي في المسجد (الراتب) عن طرق الوقفة، حيثيجتمع التلاميذ في كُتابهم، ويقرأون الخمسة الأخيرة «يسبح» بعضهم يقرأ خمسة كاملة وبعضهم كل ليلة حزبا، لذاك نجد أن طلبة هذه المدراس غالبا ما يتقنون حفظ هذه الخمسة، وعقب ذلك يرددون ما أخذوا من أبيات المتون، لحفظها وتثبيتها.
دورها في تلقين تعاليم الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية
تشتهر منطقة توات الكبرى بحفظ القرآن الكريم وتلقين تعاليم الفقه المالكي والعقيدة الاشعرية ومبادئ التصوف السليم، كما تساهم هذه الكتاتيب تثبيت دعائم المرجية الدينية للمذهب المالكي في المنطقة من خلال تدريس أمهات المتن الفقيه الصغرى كالاوجلي والأخضري وابن عاشر في العبادات ومنظومة العبقري في حــــــكم السهو في الصلاة؛ ثم متن أسهل المسالك في فقه الامام مالك فرسالة ابن أبي زيد القيرواني، حيث يكتب المعلم على لوح المتعلم كل يوم بيتا وبيتين من هذه المتون بحسب طاقة استيعاب المتعلم، ليحفظه بدءا بالعقائد مثل منظومة ستة وستون عقيدة،ثم الانتقال الى متون العبادات والصلاة.
«حافيض»...حفل تخرّج التّلميذ حامل القرآن في منطقة تيجورارين
ولحكاية «الحافيض» حكاية في الموروث الثقافي المحلي راسخة في الذاكرة الجماعية لمنطقة تيميمون، حيث يتم تكريم التلميذ الشاب الذي ختم القرآن وذلك بتزين لوحته الخشبية التي كان يكتب عليه القرآن بأشكال زخرفية تسمى «العورفة»، وهي زخرفة اللوحة الخشبية فنيا بمنمنمات زخرفية بماء الزعفران والورود يحضرها معه التلميذ يوم الاحتفال، ليكتب عليها كل شيوخ المدرسة وأئمة المدارس والمساجد سطرا من القران للآيات الأخيرة من الذكر الحكيم من سورة البقرة بداية من آية «وإن كنتم على سفر} إلى الآية {فانصرنا على القوم الكافرين}، وهذا تبركا بالشيوخ حملة القران وافتخارا بالتلميذ الذي ختم القران.
وبعدها يجلس ويلبس التلميذ اللباس الابيض والعباءة البيضاء والعمامة، ويكتحل بالكحل ويعطر بماء الورد من طرف الشيوخ والائمة والفقهاء وأشراف القوم، وتذبح الذبائح ويطعم الطعام على شرفه، ويرفع فوق القوم على حصان جميل مسرج برقعة جميلة ويطاف به في المدينة والشيوخ والعلماء وقومه والطلبة يمشون وراءه مرددين البيت الشعري الملحن: كلام الحق جاء بما اقول....وما محمد الا رسول والتلميذ هو يتبختر يتهدى نشوان، حاملا لوحته المزينة كأنه الملك أو الامير، والناس يرمون عليه النقود والاشياء الثمينة تعظيما للقرآن الكريم وحامله، وقديما كان يكرم «الحافيض» بين قومه أو أهله أو عشيرته، ويوصي له ببستان وقسمة ماء من الفقارة تشجيعا له وتكريما له.
وفي الأخير نؤكد على أن الكتاتيب تساهم بشكل إيجابي تلقين المضمون الديني الذي يقوم على مبدأ الوسطية والاعتدال في المنهج الدعوي، وتحفيظ كتاب الله تعالى للأجيال الناشئة، وتعليم الكبار عن طريق الكتابة على الالواح الخشبية والحبر والدواة والاستظهار، إضافة الى الحلقات الخاصة بالقراءة الجماعية حيث ندعو الى ضرورة التنسيق بين المدرسة التربوية والكتاتيب القرآنية، وضرورة الاعتناء بها وتحديثها بما يتوافق مع المعطيات المستجدة في الواقع التربوي، وإدراجه ضمن الأولويات في الحقل التربوي لأنها تعتبر صمام الأمان في المحافظة على الهوية والمرجعية الدينية المالكية لدى المجتمع الجزائري.